◄أحفاد الحبشة تناسوا دروس الماضى.. والمسمار الأخير فى نعش الدموى أبى أحمد وعملائه قريبًا
التغير المناخى واحد من أخطر مُحفِّزات الصراع، بين الدول وداخل الدول، فى هذا الزمان ثمة حلقة تربط بين التغير المناخى وموارد الغذاء وحركة البشر، التغيرات المناخية لا تخلق الصراعات من العدم هى تُفاقِم أوضاعًا متوترة وقلقة بإضافة عامل خطير من عوامل النزاع. يتحدث الخبراء عن حروب ستحدث بسبب تغيرات مناخية يكون من شأنها دفع كتل سكانية كبرى إلى الحركة من مكان إلى مكان، أو بسبب منافسات حتمية على موارد شحيحة بين دول وجماعات وقوميات.
الحقيقة أن ما يُسمى «حروب المناخ» ليس تطورًا يُنتظر حدوثه فى المستقبل البعيد هو واقعٌ يحصل أمامنا بالفعل، لقد صار معروفًا اليوم أن الحرب الأهلية السورية قد سبقتها ثلاث سنوات من الجفاف فى الريف. يُشير البعض إلى أن خسارة المحاصيل قد دفعت بما يقل قليلًا عن مليون سورى إلى هجرة الريف إلى المدن، كوّن هؤلاء المهاجرون أحزمة من التكتلات السكانية العشوائية، التى صارت وقودًا للثورة السورية. الجفاف لم يُشعل الثورة، ولكنه سرّع أوضاعًا وفاقمها وجعلها مُهيَّأة للانفجار. ينطبق الأمر ذاته على الحرب الأهلية فى اليمن، إنها حرب تعود فعليًا إلى بداية هذا القرن، شح المياه، الذى فاقمه الاستهلاك غير المستدام للموارد الجوفية، لعب دورًا من دون شك فى إشعال الصراعات بين المناطق والقبائل، فى واحد من أكثر البلاد معاناة من الفقر المائى فى العالم. الأمثلة كثيرة ومتعددة، تأمل مثلًا منطقة الساحل فى إفريقيا تمتد هذه المنطقة فى صورة حزام يقطع القارة فاصلًا بين الصحراء الكبرى والمناطق الاستوائية المطيرة، يمر الحزام بدول تُعد من الأفقر فى العالم، والأسرع فى النمو السكانى فى الوقت نفسه (سيزيد عدد سكان هذا الحزام من 90 مليونًا اليوم إلى 250 مليونًا فى 2050). شكّلت بحيرة تشاد متنفس حياة للملايين فى البلدان المطلة عليها (تشاد والنيجر ونيجيريا والكاميرون)، على أن هذه البحيرة هائلة الحجم تعرضت للتقلص والتآكل خلال موجة كبرى للجفاف اجتاحت منطقة الساحل من الستينيات حتى الثمانينيات فى القرن المنصرم، اليوم ورغم أن البحيرة صارت تستعيد حجمها القديم، فإن عشوائية المناخ وعدم القدرة على التنبؤ بالأمطار تدفع الملايين إلى التشرد لقد صارت المنطقة مرتعًا للميليشيات والجماعات الجهادية- مثل بوكو حرام والقاعدة، السبب يكمن جزئيًا على الأقل فى الجفاف وعدم استقرار المناخ.
وتتخذ التغيرات المناخية وتأثيراتها الجيوسياسية أشكالًا وصورًا متباينة، مثلًا تعرضت منطقة القطب الشمالى لذوبان نصف جليدها خلال العقد المنصرم بسبب الاحترار العالمى، الجليد أصبح أكثر رقة، وبما يسمح للملاحة فى أعالى القطب بأنها منطقة ذات أهمية إستراتيجية لا تخفى، إذ تمثل أقرب الطرق بين روسيا والولايات المتحدة. تراهن الصين على أن مياه القطب الشمالى قد تصير صالحة للملاحة أغلب فترات السنة، تمامًا كالبحر المتوسط، بحلول منتصف هذا القرن. إنه طريق جديد للبضائع تضع القوة الاقتصادية الصاعدة عينها عليه من الآن، خاصة أن انحسار الجليد كشف أيضًا عن ثروات طبيعية ومعدنية كامنة. حروب المناخ إذن ليست بعيدة عن أى منطقة فى العالم، على أن أخطر صورها على الإطلاق ما يتعلق بالصراعات التى تنشأ بسبب ندرة المياه، المياه مورد ليس له مثيل على الأرض لأنه يتعلق بالحياة ذاتها، ولا حياة من دونه، تتصاعد حِدة النزاع حول المياه إن هى اختلطت بنَزَعَات قومية. يظهر هذا الوضع بجلاء فى شبه القارة الهندية، حافظت الهند وباكستان بصعوبة على اتفاق لتقاسُم مياه نهر السند (يعود إلى عام 1960)، الهند تتحكم فى المنبع، اليوم وبسبب تصاعد التوتر بين البلدين، تتزايد مخاوف باكستان من استخدام الهند المياه كسلاح حرب، الظروف المناخية التى وُقِّع اتفاق السند فى ظلها تغيرت، السكان تزايدوا بصورة مخيفة. فى كراتشى هناك ملايين يعيشون فى فقر مائى. الماء سلعة يشتريها الناس هناك، وتتحكم فيها عصابات بائعى المياه! وبطبيعة الحال، فإن المشكلة الأشد فى خطورتها واحتمالات تفجُّرها تتعلق بتداعيات بناء سد النهضة فى إثيوبيا على استدامة الموارد المائية لكل من مصر والسودان. تغير المناخ يقع أيضًا فى القلب من هذه القضية المعقدة، من المتوقع أن يؤدى التغير المناخى إلى ارتفاع فى درجات الحرارة، مع أنماط متغيرة وغير منتظمة لسقوط الأمطار، الخطر يتعلق بصعوبة التنبؤ بهذا النمط غير المنتظم. الارتفاع المستمر فى درجات الحرارة (المُتوقَّع حتى آخر القرن) يؤدى إلى تزايد البخر والترسُّب، يعنى ذلك أن بعض السنوات ستكون حارة للغاية، وشديدة الجفاف فى نفس الوقت، بما قد يؤدى إلى خسارة محصول العام.
هنا بالتحديد مكمن الخطر وربما أصعب نقاط الاتفاق بخاصة فى مراحل ملء خزان سد النهضة، وأيضًا حول إدارة المياه فيما بعد، ما يزيد من صعوبة الموقف كون المنطقة تضم اليوم نحو ربع مليار نسمة، وربما يتضاعف عدد السكان فى النصف الثانى من القرن الحالى. سد النهضة قضية تتعلق بالأمن والسلم العالمى، ذاك هو تصنيفها بغير مبالغة هى تنتمى إلى فئة شديدة الخطورة من النزاعات القابلة للانفجار، والتى قد يؤججها التغير المناخى فى المستقبل لم يكن من قبيل المصادفة انشغال الولايات المتحدة بهذه القضية فى عهد «ترامب». لابد من الحفاظ على هذا الزخم فى قمة النظام الدولى، الرئيس «بايدن» اعتبر التغير المناخى على رأس أولوياته العالمية، هو عيّن «جون كيرى» مبعوثًا رئاسيًا للتغير المناخى، مع مقعد فى مجلس الوزراء ومجلس الأمن القومى ربما يستأنف «كيرى» دورًا قامت به الإدارة الأمريكية السابقة فى الوساطة بين الدول الثلاث. قضية سد النهضة حالة كلاسيكية لما يمكن أن تؤدى إليه التغيرات المناخية، مع الزيادة السكانية، من مخاطر مروعة فى المستقبل القريب، إنه نزاعٌ يمكن احتواؤه وتطويقه بقليل من الضغط، الذى يدفع الطرف الإثيوبى إلى سياسات عقلانية تراعى مصالح وشواغل الآخرين. تكلفة احتواء هذا النزاع أقل كثيرًا من خسائر ستترتب على انفجاره. لابد أن تُدفع هذه القضية إلى صدر أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة. التغير المناخى قد يكون زاوية مهمة لتناول القضية فى ضوء الحماس الكبير الذى تبديه الإدارة الجديدة لهذا الموضوع. أعتقد أنه يجب على الحكومة الإثيوبية الالتفات إلى مثل هذه الدراسات، وأن تتأنى على الأقل فى مسألة ملء خزان السد، للاطمئنان بأنه لن تكون هناك مضاعفات وزلازل بسبب ضغط المياه التى سيتم تخزينها على صفائح القشرة الأرضية، والتى قد تتسبب فى حدوث زلازل، وربما انهيارات صخرية كبيرة، خاصة بسبب اندفاع المياه بسرعات هائلة فى أشهر الفيضان على الهضبة الإثيوبية، وهو ما قد يتسبب فى كوارث إنسانية للإقليم بأكمله، وأن تدرك إثيوبيا أيضًا أنه غالبًا ما يعتقد الإنسان أنه يستطيع أن يكبح جماح الطبيعة، ثم يفاجأ بفورتها وثوراتها، مع عدم قدرته على السيطرة عليها بعد فوات الأوان، وهو أمر ينبغى أن يفطن إليه الساسة هناك قبل تمسكهم بقرارات قد تتسبب فى مآسٍ لمواطنيهم.
مر العالم بحربين عالميتين طاحنتين راح ضحيتهما الملايين من البشر، بسبب الأطماع التوسعية لبعض قادة دول الغرب، لكن الغرب خرج من هذا الدرس القاسى، بضرورة التوحد من أجل تحقيق رفاهية الإنسان الغربى، ونبذ الصراعات بينهم من أجل بقاء ونماء بلادهم، ونحن فى إفريقيا لدينا الفرصة الكاملة لتحقيق هذا التضامن من خلال الاتحاد الإفريقى، ولكن ينقصنا أن نبحث سويًا عن مكامن التوافق والنجاح والتقدم، وأن نتبادل معًا الخبرات والثروات من أجل رفاهية المواطن الإفريقى، الذى عانى كثيرًا من الاستعمار والاستغلال، والذى ربما سوف يعانى أيضًا من تقلبات الطبيعة بسبب تغير المناخ، وأظن أنه قد آن الأوان لتحقق إفريقيا ما تتمناه من تقدم ورفاهية، وهى مسألة لن تتحقق إلا بالتضامن والتفاهم والتعاضد بين دولها كافة، من أجل مستقبل أفضل للقارة السمراء قبل أن يأتى يوم ما بعد الغد .. ولنا عودة.