"يرفعها الأجداد ويحصد نتائجها الأحفاد".. مقولة تتردد بين دهاليز المحاكم بكل أنواعها ويعرفها ــ عن ظهر قلب ــ القضاة والمحامون، وكذلك المتقاضون ومنذ عام 1986 ــ خلال مؤتمر العدالة الأول ــ كان الحديث، ومازال حتى وقتنا هذا عن العدالة الناجزة إلا أن بارقة أمل بدأت تظهر فى الأفق خلال الأيام القليلة الماضية حين أبدى الرئيس عبد الفتاح السيسى اهتمامه بالتعرف ــ من أعضاء مجلس الهيئات القضائية - على أى معوقات من شأنها أن تحول دون تحقيق العدالة الناجزة، مؤكدا استقلال القضاء وأنه سيظل ركنا من بنيان المجتمع وحصنا للعدالة والدستور.
مع إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسى إطلاق الجمهورية الجديدة كان لابد من أن تشهد البلاد ثورة تشريعية فى القوانين لكى تواكب تطورات العصر الحديث لذلك كان عام ٢٠٢١ هو عام التحول الكبير لإطلاق حزمة من قوانين الحماية الاجتماعية لفئات كانت فى عصور سابقة تعانى من التجاهل والتهميش كذوى القدرات الخاصة وكبار السن وغيرهم، ساهم كثيرا فى زيادة العدالة الناجزة، لتكون تلك القوانين التى ختمنا بها عام ٢٠٢١ بمثابة عقد اجتماعى جديد من الحريات والحقوق والحريات بيننا كمصريين وبداية حقيقية لجمهورية جديدة. وبلا شك أن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية – وكذلك القانون الوضعى- تحقيق العدل بين أفراد المجتمع ، مع إقرار النظام فيه، فالمقصد الذى تدور حوله عامة أحكام التشريع الإسلامى أو أصوله هو العدل ، وخاصة فى التشريع الجنائى أو الإجرائى الإسلامى ، ذلك أن أحكام الشريعة أوامر ونواهٍ ولكل أمر أو نهى جزاء ، والعدل لا ينفك عن الجزاء ، لذلك درج الفقهاء على القول إن العدل عماد الشريعة ، كما أن التوحيد عماد العقيدة ، والعدل مركز فى الفطرة الإنسانية ولذلك فالشرائع كلها تقره ولا تقرره أى أنها تنزل على حكمه ولا تنشئه ، وإذا كان للجسد حواس فللعقل مثلها ، ومن هذه الحواس حاسة العدالة ، ولما كان الإسلام دين الفطرة فمن الطبيعى أن تكون أحكامه أكثر انسجاماً مع فكرة العدل. وإذا كان إعطاء كل صاحب حق حقه بصورة مطلقة هو العدل وعكس ذلك هو الظلم (الذى هو الجور ومجاوزة الحد ووضع الشيء فى غير موضعه) ، فإن إعطاء الأفراد حقوقهم على ضوء الظروف والأحوال والملابسات الخاصة لكل منهم يمثل العدالة ، فالعدل (الذى هو أحد أسماء الله الحسنى) ، وهو مقصد الشريعة والقانون والناس كافة ، وهو مطلق ، هو أمر إن كان الجميع يبحث عنه إلا أنه غاية صعبة المنال ، لذلك يحاول الكل تحقيق العدالة – التى تحرص على أن يحصل الإنسان على ما يستحقه على ضوء ظروفه وأحواله وظروف وأحوال غيره فى المجتمع . ولا شك أن للعدالة أهميتها، إذ بدونها يشعر الأفراد بالظلم، مما يدفعهم إلى الحقد على غيرهم وعدم احترام النظام والقانون فى المجتمع، ويكون ذلك سبباً قوياً لانهيار النظام والأمن فى أى دولة. وللعدالة صور كثيرة : ومن أهم صورها العدالة الموضوعية والعدالة الإجرائية، فالقواعد التى تنظم حياة الأشخاص وحقوقهم وواجباتهم ، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الجنائية ، هى قواعد ترمى – فى الأصل – إلى تحقيق العدالة الموضوعية ، أى العدالة فى حقوق أفراد المجتمع ، بحيث لا يحصل فرد على أكثر أو أقل من حقه .
العدالة الناجزة حق للمواطنين جميعا، لكن هناك أسبابا كثيرة تعوق تحقيق هذا الهدف ، بعضها مرتبط بنصوص قانونية، والبعض الآخر يرتبط ببطء التقاضى لكثرة عدد القضايا وطول الإجراءات وقلة عدد القضاة، ونقص عدد الخبراء ،وطول أمد تنفيذ الأحكام وتعطيله أو الامتناع عنه، سواء بالنسبة للأحكام الصادرة ضد الجهات الإدارية أو الأفراد أيضا، كل هذه الأسباب وغيرها نرصدها فى السطور التالية التى نستطلع فيها آراء نخبة من الفقهاء القانونيين. ظاهرة «بطء التقاضى» صارت مستحكمة ومستعصية رغم أن لجوء المواطنين إلى ساحة القضاء يكون من أجل الحصول على حقوقهم أو القصاص من المعتدين على حياتهم ، ولهذا تأتى أهمية ملف «تيسير إجراءات التقاضى وتحقيق العدالة الناجزة». إن البطء الذى تشهده ساحات المحاكم وأروقة التقاضى هو مجرد عرض لأمراض مزمنة تحتاج لعلاج جذرى وفعال، فمنذ مؤتمر العدالة الأول فى الثمانينيات ونحن نبحث عن حلول لهذه القضية.
لكن العدالة الناجزة هى قضية ذات جوانب اجتماعية واقتصادية وأيضا تشريعية، ولتحقيقها لابد من دراسة كل الجوانب بشكل متعمق، فعلى سبيل المثال لابد من بحث الأسباب الحقيقية التى أدت لازدحام أروقة المحاكم بالمتقاضين الذين يتنازعون فيما بينهم ويكون الخيار الأول هو «اللجوء للقضاء» ولا يتم النظر إذا كانت هناك بدائل يمكن اللجوء لها وبخاصة بعد غياب ثقافة التسامح بين الأفراد. التقاضى هو حق دستورى مكفول للجميع ولكن محاولة التصالح فى الكثير من القضايا قبل اللجوء للمحاكم سوف تغير الكثير من الواقع.