توارثنا جميعًا عبارة تقول إن "التاريخ يكتبه المنتصر"، وتبدو العبارة واضحة ومباشرة وتعنى أن التاريخ ليس سوى ما يسطره المنتصرون أو ما يدونه المهيمنون على المقاليد وما تريده السلطة الفعلية وأنه لا سبيل للحقيقة وسط كل هذا التزوير والتحريف، بل إن معرفة ما حدث فى الماضى بالفعل أمرٌ محجوب عنا، وليس لنا إلا تجاوز هذا التاريخ وتركه وراءنا مع أخذه فى اعتبارنا، وهذه العبارة كغيرها من العبارات ترسم صورة منقوصة عن الواقع، وتُرفع إلى درجة الحقائق والبديهيات من تكرارها كثيرًا وذلك لأن تطابق هذه المقولة مع الواقع مربوط بظروفها وأغراضها ووقتها وزمانها وأمانة المعاصرين لها، بل وهى مبرر واضح لتقاعس الأفراد عن مقاربة واقعهم مقاربة فكرية حقيقية تنطلق من إدراك الواقع الذى يعيشونه ليتحول لتاريخ حقيقى للوارثين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وإن كنت أحلل وأذكر ما يكتب التاريخ وكيف يُكتب أرى أن الأهم منه هو الواقع والمستقبل فمراقبة الواقع والتحضير والتخطيط للمستقبل أهم من ذاك التاريخ الذى نتغنى به ونتهم أحيانًا من كتبه بل ومن صنعه من البشر، فواقعنا الذى نعيشه هو الأهم وهو ما نستطيع تغييره ومستقبلنا هو ما نستطيع جعله الأفضل، بالطبع بعد الاستعانة بالله عز وجل.
فهناك من يستغرق فى الاهتمام بالتاريخ -خصوصًا القادة فى مختلف المجالات العملية- حتى إنه ربما يهمل شؤون الحاضر والمستقبل ويبقى مهمومًا باحتمالات ما يكتبه التاريخ والمؤرخون عنه، وكيف سيحكم التاريخ على تقصيره مرعوبًا من أن التاريخ سيلاحقه على سيئات أفعاله مهموم بما يمكن أن يكتبه التاريخ عنه، وهؤلاء يشغلهم كثيرًا ما يمكن أن يكتبه المؤرخون عن سلوكهم وأفعالهم، بل وهناك آخرون يسعون جاهدين لمصالحة الحاضر مع الماضى فى محاولة لجعل الحاضر نسخة طبق الأصل من الماضى، فى محاولة مستحيلة الحدوث مهما بُذل الجهد فى هذا السبيل، متوهمين أن عليهم أن يكونوا منسجمين مع الماضى وأحداثه وأفكاره وقيمه وسلوكيات شخصياته وأنماط حياته البدائية فارضين أن الأجداد كانوا أفضل من الأحفاد، رغم اختلاف الظروف والدوافع والقدرات والإمكانيات، فنجد هؤلاء وهؤلاء وقد سجنوا أنفسهم فى سجن الماضى، أجدهم يسعون ليكونوا جزءا منه والآخر يسعى ليُقلد ما قام به الأجداد رغم أن الأجداد تقدموا -إن كانوا متقدمين- لأنهم استعانوا بالله وتمردوا على الواقع وغيروا الماضى وعملوا واجتهدوا لتصل سيرتهم إلينا إنها داعٍ للفخر لا للتطبيق فلكل زمان رجاله وأفعاله وعلينا أن نكون نحن أنفسنا لا أجدادنا نعم نذكرهم ونتعلم منهم ونسعى سعيهم نحو التطوير لا نحو التقليد ولا نحو انتظار ما سيكتب عنا المؤرخون لأحفادنا.. علينا أن نكون نحن أنفسنا مطورين لواقعنا مُخططين لمستقبلنا طامعين طامحين فى كرم الله وفضله متوكلين عليه حسن توكل، آملين فى تغيير واقعنا إلى أفضل حال علميًا وثقافيًا واجتماعيُا وماديًا لأنفسنا ومجتمعنا وليأتى التاريخ كما يأتى.
أتعجب من الهوس الذى يتلبس البعض عما يمكن أن يسجله التاريخ والتأريخ عنهم فيدفعهم لأن يتشددوا فى مواقفهم وأن يتخذوا مواقف بعيدة كل البعد عن الحكمة والحنكة والمصلحة رغم علمهم من ذاك التاريخ المزعوم أن التشدد يلحق أضرارًا بذويهم وبأنفسهم من أجل ألا يكتب التاريخ أنهم تنازلوا أو توصلوا إلى اتفاق لأن فيه بعض اللين، ذاك التاريخ الذى سيحل مسجلًا مكتوبًا بعد موتى وماذا سأستفيد عند موتى بكتابة تاريخى غير رضا الله، ولكن ثناء الناس أو مدحهم أو قدحهم لن يؤثر على نعم علينا ترك سيرة حسنة لا خلاف فى ذلك ولكن كيف سيكون سوى بالعمل للحاضر والتخطيط للمستقبل وليس انتظار التاريخ ومحاولة تطبيقه فى الحاضر، فالجميع يعلم أن ما أسهل الكتابة عن الماضى، فكل المعلومات متوفرة والآراء كثيرة ووفيرة والتحليلات لا حدود لها حتى من لم يعاصر العصر يمكنه أن يجعل من نفسه خبيرا فى هذه العصور والحقب الزمنية، أما الحاضر والمستقبل فيحتاجان إلى دراسات معمقة وتحليلات تفصيلية مبنية على أسس رصينة واستشراف علمى مبنى على أسس متينة ومصادر معتبرة كما أن الماضى قد ألفه المتلقون واستساغوا أحداثه وربما يتمنون أن تعود أحداثه بحذافيرها مرة أخرى تلك الأحداث اختلطت فى تأريخنا الأساطير بالحقائق والتى قيل لهم إنها حدثت فعلا من مثاليات ومبالغات قد لا يكون لها أساس من الصحة، ولا يمكن لغير المتخصص أن يفرز الحقائق من الأساطير، أرى أن علينا نبذ الكثير من أحداث التاريخ التى تسيء إلى شعوب وثقافات وأديان ومذاهب أخرى وعدم التذكير بها من أجل الوئام والسلام والتعايش بين الشعوب والتى تتطلب التسامح ونسيان الماضى، والأصل أن تغيير الماضى مستحيل ولكنه بالإمكان صنع المستقبل وهو أهم كثيرا من الماضى. فقط يمكننا أن نستمد العبر ونتعلم الدروس من الماضى فقد قال تعالى "لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب"، هذا قوله تعالى العالم بكل شيء فى الماضى والحاضر والمستقبل، فمن الواجب علينا أن نفعل ذلك كى نتجنب الأخطاء التى وقع فيها السابقون ولكن يجب ألا نخشى التاريخ والتأريخ المزعومين وألا يكونا هاجسًا يعكر صفو حياتنا ويجبرنا على أشياء مؤذية فيجب ألا نولع بأحداثه ونعتبرها مثالًا يحتذى فى كل الحالات ولتعلم عزيزى القارئ أن هناك الكثير من الأحداث كُتبت بطريقة قصصية بحيث تكون مشوقة وجميلة، لكنها فى الغالب لم تكن كذلك، خصوصًا إذا تعلق الأمر بالماضى والتاريخ القديم والبعيد، حيث أؤلئك المؤرخون القصاصون ممن كانوا أحيانًا لا يعاصرون ويكتبون من أجل المتعة أو المجاملة وليس الحق ونقل الواقع، والدليل أننا فى هذا العصر الحديث وسط ثورة الاتصالات والإعلام والسماوات المفتوحة من وسائل اتصال وتواصل وإعلام مصورة ومرئية ومسموعة ومكتوبة ووسائط نقل سريعة وما اكتسبناه من علوم ومعارف وما ابتكرناه من وسائل التحقيق وأدوات التحليل مازال الكثير من الأحداث الحاضرة غامضة، فإن كانت أحداث الحاضر غامضة وفيها رؤى مختلفة، فكيف نتوقع أن تكون أحداث التأريخ القديم صحيحة أو دقيقة وأن كل ما تقرأه صحيح لتسجن نفسك فى سجن المواقف التاريخية لتفعلها كما هى فقط عليك تعلم الدروس والعبر من التاريخ ومن الماضى، مع إهمال تلك الأحداث غير المنسجمة مع عاصرنا.. علينا أن نعيش حياتنا بمعزل عن أحداث الماضى، ومصلحتنا تقتضى أن نعيش الحاضر ونتطلع دائما إلى مستقبل أفضل بالتخطيط والعمل من أجله لا من أجل التاريخ من بعدنا، فعلينا أن نجتهد لنغير الحاضر ونخطط للمستقبل ولا نغفل دروس الماضى.