أقدمت أم لثلاثة أطفال أبرياء فى عمر الزهور على ذبحهم رغم استقرار كل العوامل مثل التعليم والثقافة والمستوى الاقتصادى والأخلاقى، وهو ما يفتح الكثير من التساؤلات ويشير إلى إهمال ملف خطير هو "الصحة النفسية". الحقيقة أن ضغوط الحياة كثيرة وتحدياتها صعبة فى ظل عالم يتصارع ويتطاحن ولا يدرى أنه يسير على طريق الهلاك، فمن أزمة عالمية إلى أخرى أكثر صعوبة وتعقيدًا أو تأثيرًا على حياة البشر وتداعيات خطيرة تؤثر على الاستقرار النفسى للإنسان. لكن التوقف أمام هذه النوعية من الجرائم لابد أن يأخذنا إلى معالجة مختلفة تبدأ بالوقوف بالبحث والفحص والتحليل لمثل هذه الجرائم العنيفة التى هزت المجتمع ودقت جرس إنذار خطيرا، للتعرف على الأسباب ووضع آليات وإستراتيجيات للعلاج والشفاء والتصدى لمثل هذه الظاهرة الخطيرة.
أيضًا لابد من مصارحة النفس بأن المجتمع أصبح يعانى من ميراث شديد الوطأة خلفَّته أفكار شاذة وغريبة ومتطرفة، فكيف للإنسان أن يتحمل جرائم الإرهاب الأسود على مدى 10 سنوات متواصلة؟ ومازال يحاول العبث والنيل من أمننا واستقرارنا، فوجود جماعة الإخوان المجرمين على مدار عقود نهاية بالعقد الأخير الذى شهد أفظع جرائمهم وإرهابهم هو أمر قاسٍ على النفس وعلى النساء والأطفال. فكيف يرى الدماء والقتل والهلع والفزع والخوف؟ وكيف تتحمل النفس الإنسانية هذه الوجوه الكارهة القبيحة التى تنشر الخبث والسموم والتطرف والتشدد والوعيد والتهديد بالقتل والجرائم؟ إنها وجوه أقرب إلى الشيطان تتعارض مع النفس الإنسانية المسالمة المحبة للحياة والتسامح والتعايش والتعارف والتآلف. حياة المصريين منذ 2011 مشاهد شديدة الصعوبة عاشوا أيامًا شديدة القسوة من فوضى وانفلات وفزع وخوف وجرائم وسرقات ونهب وحرق وغياب للشعور بالأمن والأمان، ثم جاءت جرائم الإخوان الإرهابية فى حق الشعب المصرى ومدى تأثير هذه الأجواء على التكوين والصحة النفسية للمصريين. ثم الحديث عن تأثير المخدرات والسوشيال ميديا والإعلام الجديد فى ظل انتشار أفكار شاذة وغريبة عن مجتمعنا ومحاولة ترويجها بغزو ثقافى وسلوكى ممنهج يستهدف تغيير البنية الأخلاقية المصرية. ومن ثم يجدر الحديث عن الأكاذيب والشائعات والتشكيك والتشويه والتحريض والدعوة إلى الفتن والقتل وسفك الدماء ومشاهد تبثها الجماعات والتنظيمات الإرهابية تظهر جرائم قتل وإزهاق لأرواح الأبرياء. ثم الحديث عن حالة التوهان الدينى والفكرى ومحاولات لتشويه الدين وضرب الثوابت والإساءة للمقدسات والنصوص والرموز الدينية وحالة الاستباحة التى يتعرض لها الشرفاء سواء من الرموز أو الناس البسطاء، كل ذلك ساهم فى زيادة التداعيات القاسية على النفس الإنسانية وحالة الصراع الذهنى والفكرى والنفسى التى ربما وفى حالات لا يستطيع تحملها وتظهر فى شكل جرائم أو انحرافات سلوكية. نحن أيضًا فى حالة افتقاد المتعة والصفاء والرضا والرقى، نفتقد الأوقات الجميلة التى نستمتع فيها سواء مع الأهل أو الأسرة أو الترويح عن النفس أو متعة الفن والغناء والموسيقى والقراءة وشاى العصارى واللمة الحلوة والبساطة، وانتشار حدة التطلعات بسبب ما يبثه الإعلام من مستويات تفوق طاقته وقدراته وموارده ومستوى حياة مختلف وهو ما يسبب حالة صراع داخلى. نحتاج إلى رؤية لمواجهة حالة الاعتلال والعطب والخلل النفسى الناتج عن ضغوط وصعوبات وأزمات الحياة، لإعادة التوازن إلى النفس لابد أن نستمر فى الاطمئنان على الصحة النفسية للمواطن ونُعْلى من شأن هذا الأمر كالتالى:
- يجب أن ترقى قضية الاهتمام بالصحة النفسية للمواطن إلى الاهتمام بالأمراض العضوية والكشف عن المخدرات، ولابد من مقاومة حالة الشعور بالخجل أو العار أو التردد فى الذهاب إلى طبيب نفسى فى حال الشعور بأعراض ومظاهر الاختلال النفسى. - التوسع فى الاهتمام بالعلاج النفسى بالمستشفيات الحكومية وتكون لها عيادات أو أقسام خاصة مثل باقى الأمراض العضوية والتخصصات الأخرى، وتخصيص خطوط اتصال وأرقام ساخنة للإجابة عن تساؤلات المواطن فى هذا الإطار، من خلال خبراء وأطباء متخصصين، وسؤال دار الإفتاء لأن كون الدولة تهتم بهذه القضية فإن ذلك يعكس ويشكل وعيًا لدى المواطن فيما يخص المرض النفسى. - على الإعلام أن يولى اهتمامًا كبيرًا بأهمية العلاج النفسى، والتأكيد بالطرق المباشرة وغير المباشرة، أنه ليس عيبًا أو عارًا يستدعى الخجل والتخفى، وهو نفس الدور الذى يجب أن تؤديه الدراما حتى يترسخ فى عقل ووجدان المواطن أنه مرض عادى مثل سائر الأمراض يستوجب الكشف والفحص والعلاج والدواء. - أن يكون الكشف والفحص النفسى للمواطن أمرًا أساسيًا مثل الكشف عن المخدرات، فلا يمكن أن أمنح رخصة قيادة لمواطن دون شهادة السلامة النفسية، وتكون مشددة، لا يمكن التلاعب فيها أو استخراجها بالطرق الملتوية والأساليب والألاعيب والفهلوة التى عهدناها فى بعض الأمور الأخرى. - لا يتم أى زواج دون الكشف الطبى الكامل، ولا يتم التنازل عن شهادة السلامة النفسية والاطمئنان على الحالة الذهنية والعقلية والنفسية للمقدمين على الزواج، ويتم تجديد الشهادة كل 3 أو 5 سنوات. - تطبق هذه الآلية مرحليًا بحيث تكون على طلاب المدارس المنتقلين من مرحلة إلى مرحلة دراسية أخرى، مثل الانتقال من الابتدائى إلى الإعدادى إلى الثانوى، والأوراق التى يتقدم بها الطالب لأى مرحلة لابد أن تتضمن شهادة السلامة النفسية، وكذلك فى حال استخراج أى أوراق رسمية مثل جواز السفر وغيره من الأوراق المهمة، ولابد من إبراز هذه الشهادة فى حال السفر بواسطة القطارات أو الطائرات أو السفن، وفى اعتقادى أن المشروع القومى للتأمين الصحى الشامل وهو نظام يرتبط بعلاج الأسر ومتابعتها بشكل دورى وفق قاعدة بيانات صحية وطبية لابد أن يتضمن شهادة السلامة النفسية وإجراء الفحص والكشف النفسى بشكل دورى واستبيان خطورة الحالة وتوقع تطوراتها، وإذا وجدت خطورة فى الأمر يتم عزل المريض حتى لا يشكل خطراً على أفراد الأسرة. - المؤسسات الدينية عليها دور كبير فى ترسيخ وغرس الجانب الإيمانى واللجوء إلى المولى عز وجل، ونشر أفكار الترغيب والتفاؤل والأمل والحديث عن رحمة رب العالمين ومغفرته بدلاً من أفكار التهديد والوعيد والنار والتشدد والتطرف وفتح أبواب الأمل والتفاؤل أمام الناس والمساهمة فى تخفيف وطأة الاعتلال النفسى بمساعدتهم على السكينة وعدم الخوف والثقة والاطمئنان والحديث معهم برفق ولين، فالمولى عز وجل يخاطب نبيه (صلى اللَّه عليه وسلم) بقوله: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ثم "وجادلهم بالتى هى أحسن" و"واخفض جناحك للمؤمنين" ونشر ثقافة جبر الخواطر وعدم تحريم ما أحله اللَّه عز وجل، وفتح باب الاستمتاع بالحياة بما لا يتعارض مع ما يحرمه اللَّه بنصٍ ثابت ويحتاج إلى رجال دين أكثر انفتاحًا وبشاشة وبهجة وحبًا واحتواء بعيدًا عن التجهم والغلظة والقسوة والجمود، فالدين يسر وحياة وتسامح ورحمة وإنسانية ولين لكن خلَّف الإخوان المجرمون وراءهم نموذجًا غريبًا وشاذًا وعنيفًا ومتطرفًا ومتشددًا لرجل الدين، الإسلام منه بريء فالمولى عز وجل يقول فى محكم آياته: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" صدق اللَّه العظيم.. "التوبة آية 128".
فالرأفة والرحمة هما أساس الإسلام وقد منح المولى عز وجل من أسمائه الحسنى لنبيه المصطفى اسمين هما الرءوف والرحيم، لذلك هؤلاء المجرمون من الإخوان والتكفيريين أساءوا إلى الإسلام وشوهوا تعاليمه وأصابوا الناس بالارتباك، وعندما اكتشف الناس حقيقتهم أصيبوا بصدمة وحيرة تسببت فى صدمة نفسية أو ابتعاد عن الدين أو إلحاد وما يتبعها من سلوكيات وأفكار غريبة تتلخص فى الكفر بكل شيء بسبب إجرام ونفاق وأكاذيب وتطرف وخداع وتدليس الإخوان المجرمين. أعتقد أن الجرائم البشعة الأخيرة تدق ناقوس الخطر وبقوة ومع كل جريمة تهز المجتمع، نفزع ونصاب بالهلع ونتحدث عن العلاج والمواجهة، ثم نصمت ونسكت وننسى، ثم مع كل جريمة جديدة نعاود نفس السلوك. لذلك علينا أن ننتبه إلى تداعيات الأزمات العالمية وضغوط الحياة وافتقاد المتعة وحالة الصراع النفسى الداخلى والطموح الجامح مع ضيق الحال والقدرة وسقوط أقنعة الجماعات المتطرفة والتكفيرية والإرهابية. كل ذلك يستوجب الاطمئنان على السلامة النفسية والعصبية والذهنية للمواطن حتى لا يكون قنبلة موقوتة تهدد بعواقب وخيمة. تحيا مصر.