حلت علينا فى الأسبوع الماضى ذكرى ثورة 30 يونيه تلك الثورة التى أكملت ثورة يناير على سبيل إعادة بناء مصرنا الحديثة، ثورتين فى ثلاث سنوات أخرجت كل ما فينا من حماس وحب للوطن وتلاحم فى سبيله والاستعداد للتضحية بكل وأى شيء من أجل وطن يعيش فينا نعشقه ولا نمل من حبه بل مهما كان قاسيًا علينا يظل هو العشق الأول - بعد الله - والذى فى حبه لا نستطيع الوصف والسرد. تذكرت عندما دُعيت لإحدى المنصات الشعبية لتكريمى كأحد أعضاء "حركة تمرد" من جامعى توقيعات الخلاص من الإخوان فى الغربية وبالتحديد فى مسقط رأسى جمهورية زفتى، تذكرت كيف كانت تلك المنصة قبل تسع سنوات وهى التى جمعت كل عشاق الوطن الراغبين فى الخلاص والعودة بالوطن للطريق الصحيح، تذكرت أننى كنت أحد من أسموهم "عاصرى الليمون" وكنا كثيرين وبجوارى المنتمون لحزب الدستور والتجمع والوفد والحركات الثورية.
ومن أُطلق عليهم حزب الكنبة ومؤيدى حمدين صباحى والفريق شفيق وأبوالفتوح والعوا وعمرو موسى، مؤيدى جميع الأفكار والاتجاهات، نعم كنا من جميع التيارات جمعنا فقط حب الوطن والخوف عليه راغبين فى استمرار ثورتنا محافظين على أخلاقها رافضين رفضًا تامًا إسالة أى دماء مصرية من جديد. هى نفس الشوارع وهو الطقس الخانق الملبد بالرطوبة ذاته وهى الوجوه التى لم تتغير أو ربما بعضها وهى الحماسة ذاتها أو جزء منها.. تسعة أعوام مرت تغيرت أنظمة وترسخت أخرى.. نشأت تحالفات وتبخرت ائتلافات.. بزغ نجم شخصيات واحترقت أخرى وبينما يظن البعض أن الحماسة قد فترت وأن الوطنية قد خمدت وأن الاهتمام بالشأن العام قد هدأ. تحل ذكرى 30 يونيو لتعاود الأعلام ارتفاعها ويسترد الهتاف حماسه وتعود الجماهير إلى التلاحم والوقوف على قلب غاية واحدة ألا وهى مصرنا الغالية ولا شيء سواها. أتذكر مع نجاح الثورتين المصريتين الحديثتين سياسيًا بإسقاط نظامين ما بين ظالم بائد وميلشيات جماعات الظلام، تعالت الدعوات من قلب ميادين مصر وعلى صفحات مواقع التواصل للإبقاء والحفاظ على "أخلاق الثورة" التى عززت ثقة المصريين بسلامة مجتمعهم وقيمهم والقدرة على إحياء الخصال النبيلة والتخلص من الأمراض السلوكية التى اعترت الجسد المصرى على مدار عدة عقود بائدة. أبرزت الثورة عودة التلاحم والتراحم وإعلاء القيم والعادات الحميدة والحفاظ على أخلاق وتقاليد المجتمع فى المعاملات وحدث تحول إيجابى فى المجتمع حين غابت عن مشاهد حُشرت فيها ما يقرب من المليون شخص فى ميدان واحد.. وقائع سرقة أو تحرش أو بلطجة ولو اصطدم بك أحد تجد كلمة آسف بابتسامة. ولو أراد المرور يطلب منك الإذن بكل لُطف وإن سألك عن إثبات شخصية يعتذر من أجل تأمين الموجودين ومنع المندسين، فى الميدان الجميع إخوتك وكلمة خد بالك البنات والسيدات هتعدى تجعلك تقف صلبًا فى حمايتهن حتى المرور وبانتهاء مدة التواجد تجد تعاون الجميع من أجل نظافة الميدان قبل المغادرة فى مشاهد هى الأعظم فى تاريخ الثورات الحديثة بل والقديمة، فنحن شعب يصنع التاريخ بكل نواحيه الجمالية. لا أستطيع أن أنسى وصايا المصريين لبعضهم ودعواتهم للحفاظ على "أخلاق الثورة" أصوات تُطالب الناس بعدم نسيان كيف كانوا يتصرفون أيام الأزمات وتدعوهم إلى التمسك بالسلوك المتحضر فى الشارع ومع الناس واستمرار صلة الرحم التى برزت بوصفها فضيلة كانت غائبة وأعادتها مشاعر الخوف التى أعقبت الانفلات الأمنى تارة والخوف على ضياع الوطن لأصحاب الأجندات تارة أخرى وامتدت هذه الدعوات للتأكيد على رفض التخوين وتصنيف الناس على أساس مواقفهم السابقة من الثورة بين مؤيد ومعارض فالجميع مُرحب به عليه فقط أن يثبت أنه يعشق تراب هذا الوطن بالعمل لا بالكلام.
كان لثورتنا أخلاق، نعم أخلاق عشناها وهى من الأساس أخلاقنا التى كانت مفقودة عادت إلينا خلال ثوراتنا فى حب الوطن ولكن سرعان ما عادت ريما ليس لعادتها القديمة فحسب بل لأسوأ من عادتها القديمة، فنظرة واحدة على أحوالنا فى العمل والشارع والمسكن سنكتشف معها حجم المأساة التى أصابتنا وغضضنا الطرف عنها بداعى الحرية دون أن ندرك أن الحرية مسئولية فالمجتمع الذى تغيب عنه القيم الأخلاقية سيتحول حتمًا إلى غابة يأكل القوى فيها الضعيف ولا يأمن شخص على نفسه وعرضه. بل ولم يعد مجتمعنا هو ذاك المجتمع الذى يوقر الكبير أو يرحم الصغير الكل يتصارع من أجل نفسه فقط ويتناسى أن الجميع فى مركب واحد إن غرق غرقوا ولن تصمد سفينة فى مواجهة الأمواج العاتية إلا بالأخلاق فـ"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وكم كان المصريون فى القرون الماضية أكثر تقديرًا للأخلاق والتزامًا بها ودعوة إلى انتشارها رافعين شعار أن القيمة الأخلاقية هى الأصل فى السلوك الإنسانى وتتفوق على أهمية تفوق الجاه والمال. فالأخلاق سلوك فطرى يولد مع الإنسان وينمو ويتزايد بالاكتساب والتنمية بالتعامل مع الآخرين فكما يبحث الإنسان عن الرزق عليه أن يبحث عن الأخلاق التى قسمها الله بين العباد كما قسم الأرزاق وإن كان الإنسان له جسد ظاهر وروح باطنة فإن الأخلاق كذلك لها قيم ومبادئ تسكن القلب وتعكسها وتترجمها السلوكيات وجاءت الأديان لتحض عليها حتى إن نبى الله محمد قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وهو ما يعنى أن الأخلاق كانت موجودة قبل بعثته وأولى النبى التحلى بالأخلاق اهتمامًا بالغًا حين قال "وخالق الناس بخلق حسن"، والأديان كلها سند للأخلاق وداعمة لها وداعية للتمسك بها. والأخلاق هى الواقى من الانهيار، والحرص عليها وتأكيد فكرة الضمير وتفعيله يؤدى بالتراجع عن الكثير من الأعمال السيئة، فتنمية الضمير هى المفتاح السحرى للتحكم فى تصرفات البشر السلبية.. الأخلاق والقيم السائدة فى المجتمعات ترتبط برقى شعب هذا المجتمع فكلما ارتقت كلما ارتقت الدولة ونمت. لقد تركنا هذه القيم منذ زمن ولم ننمها ولذلك يجب أن نبدأ من مرحلة الطفولة لأن هذه المرحلة تكون هى الأهم فى تربية وتنشأة النشء فيجب أن نعلمهم فى بداية حياتهم الأمانة وقبول الآخر.
إن القيم التى نريد أن نغرسها فى نفوس أبنائنا هى مبادئنا من الأساس كالقيم والأخلاق التى تتكلم عن محاسبة النفس والصبر والعفة والشجاعة والعدل والبشاشة والتسامح والحرص على مقابلة الإساءة بالحسنى وهى نفسها "أخلاق الثورة" التى نطالب بها، وأعتقد أننا إذا توصلنا فى نهاية الأمر إلى فرض ممارسة الأخلاق والقيم التى نتمناها نكون بدأنا فى بناء إنسان جديد يتواءم مع معطيات العصر وما يسود المجتمع الآن من الرغبة فى الحفاظ على القيم والأخلاق، خاصة تلك الفئة العمرية التى عاشت الثورات دون وعى ودون إدراك - لحداثة سنهم أو لعدم انخراطهم - وفى ظل هذا السباق المريع فى تدشين السفالة والانحطاط عن طريق أنصاف الفنانين والسوشيال ميديا والمهرجانات وما تحويه من كوارث أخلاقية وأفلام البلطجة والدعارة والمخدرات وهتافات روابط الأندية وسلوك سائقى سيارات الميكروباصات والتوك توك وكل ما وصلهم عنا أنها ثورة لبلوغ الحريات المزعومة فى حين أن "أخلاق الثورة" وتنمية الضمير هى أسمى ما نسعى إليه.