تلك الدعوة التي إعتادتها أحب مخلوقة لي علي وجه الأرض المرحومة أمي، كانت تردد دائمًا "اللهم يوم نزاع ويوم وداع اللهم ساعة نزاع وساعة وداع"، كنت صغيرًا لا أفهم الدعوة وعندما كبرت وفهمتها إلي حدٍ ما طلبت منها التوقف عنها فأخبرتني بعبارات كتلك (البني آدم ثقيل، ماحدش بيستحمل حد، البركة فيكم، ربنا ما يجعلني عبئ علي حد، ربنا يجعلني أموت وانا قادرة أخدم نفسي)، وعدة عبارات ودعوات مماثلة ولأنها عليها رحمة الله كانت مخلصة وتُحسن الظن بالله توفيت في عمر الـ57 من عمرها واقفة شامخة بعد أن ذهبت لعملها كمديرة مدرسة في الصباح صائمة في أول أيام شهر شعبان ثم عادت منزلنا وذهبت بعدها لإطعام والدها الذي كان قد تجاوز التسعين عام بقليل، الذي توفي بعدها ببضعة شهور، لتُصاب بجلطة وتذهب إلي المستشفي القريبة من منزلنا في ذاك الوقت سيرًا علي الأقدام تصعد روحها بعد سويعات، وكأن دعوتها بحذافيرها قد حققها الله، رحمك الله يا أغلي الناس، كم كنت أتكني أن تعيشي سنوات وسنوات لأعيش خادمًا تحت قدميك.
تذكرت قصة أمي ودعوتها وكيف كانت تري أشياء لم أكن أتخيلها إلا عندما رأيتها راي العين، عندما طلت علينا في الإسبوع الماضي واقعة لم أكن لأصدقها مهما طال بي العمر والتجارب تلك الواقعة التي أدمت قلبي وأدمعت عيني بل وأحزنتني حزنًا قلما أشعر به وذلك عندما خرجت علينا الصحف المحلية بخبر تحلل جثة سيدة في العقد التاسع من عمرها بأحدي مدن محافظة الشرقية، بعد أن أكتشف الجيران وفاتها بصدور رائحة كريهة من شقتها التي تُقيم بها بمفردها، وبكسر باب الوحدة السكنية وجدوها قد ماتت قبل حلول عيد الأضحي المبارك، وظلت بعده بعشرة أيام كما هي لم يدخل عليها أحد ولم يسأل عليه أحد والمفاجأة أن لديها أولاد أكبرهم عمره خمسون عام وأصغرهم في الثلاثين من عمره، وهذا الكبير يزورها مرة في الشهر ليصرف لها المعاش الشهري ويحصل منها علي جزء منه ولا يعود إلا في الشهر التالي، والآخرين لا يزوروها نهائيًا ولا حتي في المناسبات والدليل الوقفة والعيد ولم يحضر أحد لا منهم ولا من أولادهم والحجة الواهية التي قالها أبنها أن الدنيا تلاهي بل دعي أصحح لك أيها الجاحد أنها لهو ولعب وخزي وندامة لك ولإخوتك في الدنيا والآخرة، كيف سمحت لنفسك حتي بالرد هل لديك دماء وروح مثلنا أم أن ما يجري بداخلك مياه لا تنفع والله إن المياه لاشد نفع من ومن إخوتك، لقد أقترفت أنت وأشقائك جريمة قتل نفس وإغتيال روح عذبتوا تلك المسكينة بهجركم في الدنيا، وأبشركم بعذاب في الآخرة وقبله عقاب في الدنيا فحديث الصادق الأمين -الذي أسأل الله أن تروه عاجلًا غير آجلًا- "اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدي"، وآخر "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات".
أتذكر تلك القصة الشهيرة خلال العهد النبوي الشريف للشاب علقمة الذي كان يصلي المكتوبات ويحافظ ويصوم رمضان وغيره من الأيام أطاعها أمرأته وعق أُمه فغضبت عليه ولما حضرته الوفاة عجز عن قول لا إله إلا الله فجاءوا إلى النبي فقالوا: إن لسان علقمة لم ينطق بكلمة التوحيد وهو في الموت فقال: قولوا لأمه : إما أن تأتيني وإما أن آتيها فقالت : بل أنا آتي رسول الله فلما جاءت إليه سألها عن خبر علقمة فأخبرته أنه كان يعقها فقال: إما أن ترضي عنه وإما أن أحرقه بالنار فقالت: بل أرضى فنطق علقمة بالشهادة، حبس عقوقه لوالدته قول الشهادة قبل الموت فلما رضت عنه أنطقه الله بها، فمهما قدمت لأمك من خير وبر وطاعة وإحسان فلن توفيها ولو زفرة من زفراتها ولا طلقة من طلقاتها حين ولادتك بل وهي من تحملت عنك أعباء العناية حتى بلوغ الاعتماد على النفس -أتتذكر نعم هي من أعتنت بك في كل أمور حياتك وأنت صغير تري هل كان أحد يعتني بك بعد قضاء حاجتك وأزالت عنه الأقذار والأوساخ إلا هي وهذه وحدها كلما تتذكرها لكفيلة أن تنحي تحت قدميها طالبًا رضاها-، تحيطك في كل مراحل حياتك بمشاعر فياضة من الصبر والمثابرة والحب والرحمة والمودة والمساواة والكرم، فالأم هي تلك النعمة العظيمة والمعنى الكبير محور الحياة ومصدر الحنان والعطاء والتضحية هي صانعة الأجيال وناشئة الأمم الحياة دونها لا تكتمل الأم نفحة من نفحاتِ الجنة ونسمة ربيع وادعة تملأ القلب بالحياة وتملأ الروح بالأمل وهي أقرب مخلوقٍ وأكثر الناس عطاءً وهي الشمعة التي تُفني نفسها لأجل أن ترى أبناءها أفضل الناس وهي التي تحمل وتتعب وتنجب وتُربي وتسهر فهي الصديقة والمعلمة والطبيبة وكلّ شيء، فالأم عالم عصي على الوصف تعجز الحروف عن وصفها وتعجز الكلمات عن ذكرها، اللهم فمع كل بزوغ فجر وشروق شمس وغروبها ومع كل ذكر لكلمة أم أرحم أغلي الناس أمي والحقنا بكل أهلينا وأحبنا مع الصالحين في الجنة.
والأمر سهل يسير مادام الوالدان في صحة وعافية يستطيعان القيام بأمرهما يضحكان ويسعدان في أوقات السعادة ويعبران عن مكنون قلوبهما في أوقات الحزن فيسهل برهم بل تبر نفسك بوجودك بجانبهم بل البر عندما يثقل الجسد وتشتد الحساسية وتكثر المطالب وتزيد الآلام وتتيبس الأطرافه ويغيب الكثير من التعبيرات والمعاني ويكثر سوء الظن ويطول الأنين والشكوي ويعود الكبار صغارًا في العقول هنا هو إختبار البر هنا تجد نفسك أمام إختبار التضحيات الواجبة أمام جهد لازم عليك أن تبذله ومال ثقيل عليك أن تنفقه فهل تنجح عندئذ في هذا الاختبار الحقيقي للبر أم تظهر منك الخساسة وسوء الفعال ونسيان الوفاء تجاه أغلى الناس نعم هما اللذان حملانك صغيرًا وتأوها لأنينك وخافا لتأوهك وارتعدا لغيابك ولم تنم جفونهما حرصًا عليك واشتد سعيهما للإنفاق عليك هما من طارا فرحًا ببسمتك الأولى واشتدت قلوبهما فرحًا بحروفك الاولى وطالت اعناقهما السماء بنجاحاتك وانجازاتك فأنت أعظم إنجازاتهما هذان هما من ينتظرانك لترد الجميل وتزيد عليه ينتظرانك لترد الإحسان إحسانًا وتعيد الوفاء كرمًا وشكرانًا وإنه لدين عائد إليك عن قريب فإياك أن تفرط أو تستهين فلئن قمت بحقهما عليك الآن فإن غدًا ينتظرك ليقوم أبناؤك بحقك عليهم وإن فرطت وتهاونت وانشغلت وآثرت حياتك الدنيا بما فيها وأهملت أبويك فلبئس غد ينتظرك عند كبرك، ثم في نهاية عمرك.
اللهّم خِفَافًا لا لنا ولا علينا لا نُؤذِي ولا نُؤذَى لا نَجرَحُ ولا نُجرَح لا نَهينُ ولا نُهان اللهم عبورًا خفيفًا لا نشقى بأحدٍ ولا يشقى بنا أحد …. اللهم ساعة نزاع وساعة وداع