محمود الشويخ يكتب: « أحزان العذراء » كيف بكت السيدة مريم فى الأيام المقدسة؟
- "الوجع غالب".. ماذا يفعل الأقباط فى "عيد العذراء".. وكواليس وداع البابا لشهداء الكنيسة الأطفال.
- "ارفق بهم يا أبى".. لماذا يصوم المسيحيون ١٥ يوما؟.. وأسرار مناجاة "أم النور" فى القداس .
- "بركاتك يا عدرا".. هل تظهر "الشفيعة" للتعزية فى الأرواح التى ذهبت فى "الحريق الأسود"؟
ما أقسى أن تزاحم أيام الحزن أيام الفرح.. أن تنزل دموع الألم بدلا من دموع الفرح.. أن تهزم الصرخات الضحكات.. أن يرتدى الجميع "الأسود" فى أوقات الضحك واللعب.. هذا ما يعيشه المصريون وفى القلب منهم المسيحيون الآن.
لم تكن السيدة التى فقدت أولادها الثلاثة فى حادث كنيسة أبو سيفين الأليم تهذى وهى تصرخ فى قداس وداعهم "زعلانة منك يا عدرا.. تلات صناديق من بيتى ليه".. لم تكن رافضة للقضاء والقدر لكنها كانت تعاتب القديسة الأعظم.. العفيفة المقدسة.. السيدة مريم عليها السلام.
كانت تعاتبها أنها لم تحم أولادها الثلاثة فى شهرها المقدس حيث يحمل أغسطس من كل عام مناسبة خاصة لكل الأقباط، تتمثل فى صوم السيدة العذراء مريم، الذى يختلف موعده بين الطوائف المسيحية، فبينما يكون لدى الكاثوليك والروم الأرثوذكس فى الفترة من ١ إلى ١٥ أغسطس، تصومه الكنيسة الأرثوذكسية – بيت الشهداء – فى الفترة من ٧ إلى ٢٢ أغسطس.
كانت تعاتبها على صيامها لوجه العذراء التى لم تقف لجوار أولادها.. فصوم العذراء من الأصوام التى يحرص عليها الأقباط تقديرًا لمكانة السيدة مريم، ويمتنعون فيه عن تناول اللحوم، مع الاكتفاء بتناول المأكولات بالزيت فقط، ورغم أنه يُسمح فيه بتناول الأسماك، يمتنع كثيرون عن ذلك، رغبة منهم فى صومه بزهد وتقشف زائد.. وفى أيامه المباركة تستقبل الأديرة والكنائس التى تحمل اسم العذراء مريم الزوار يوميًا خلال هذه الفترة، وعلى رأسها دير العذراء على جبل «درنكة» ودير المحرق فى أسيوط، وكنيستا العذراء فى مسطرد والزيتون، وتشهد جميعها إقامة أنشطة مكثفة تتضمن صلوات ونهضات روحية يومية، وسط تشديدات أمنية مكثفة، والتزام صارم بالإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس «كورونا».
لكن ما لا تدريه هذه الأم – وقلبى معها فى مصابها – أن
العذراء تبكى الآن.. حزنا وقهرا على أولادها الذين صعدوا.. وليس غريبا أن تبكى السيدة العذراء فهى تبكى منذ أن كانت على هذه الأرض.. بكت مع المسيح على أورشليم وبكت معه على صديقه اليعازر وبكت معه على الجلجلة.. وما زالت تبكى.. منذ ألفى عام على أولادها.
وفى الأيام الخوالى فى الصعيد كان "عيد العذراء" من المناسبات التى ننتظرها من عام إلى عام.. لنشد الرحال إلى دير السيدة العذراء مريم فى «درنكة» بأسيوط.. وليس فى الأمر أى غرابة.. فهذا عيد مصرى مصرى خالص.. حيث يتوافد عليه الزوار والأقباط الذين يقيمون داخل الدير طيلة فترة صوم السيدة العذراء مريم.
ولقداسة العذراء يلتزم الزوار بارتداء الملابس المحتشمة للرجال والنساء، خلال التواجد فى الدير طيلة فترة الاحتفالات بصوم العذراء، ومن المعروف أنه «ممنوع نهائيًا ارتداء الشورتات أو الملابس غير المحتشمة».. هذا إلى جانب منع تواجد السيارات فى صحن الدير، طوال موسم العذراء مريم، بينما يسمح لها بالمرور للضرورة القصوى، من الساعة ١٢ إلى الساعة ٢، لمدة ثلث ساعة فقط.
ويشهد الدير تكثيفًا وتواجدًا أمنيًا كبيرًا، طوال فترة صوم السيدة العذراء مريم على مدار ١٥ يومًا، تتضمن وضع بوابات إلكترونية فى مداخل الدير لتفتيش الزوار، مع منع دخول أى زائر بدون بطاقة إثبات هوية… وفى الوقت ذاته، تم توفير عدد من السيارات لنقل الوفود والزوار من أسفل الدير إلى أعلاه والعكس، فضلًا عن وجود مصاعد وكراسى متحركة لنقل كبار السن وذوى الإعاقة، من أجل تسهيل الزيارة عليهم، بالإضافة إلى وجود متطوعين فى الدير لمساعدة الزوار ككل.
ويستقبل الدير نحو ٢ مليون زائر من مسلمين ومسيحيين بمختلف محافظات الجمهورية سنويًا، مع حضور كبير لافت للنظر يومى الأحد والجمعة من كل أسبوع.. ولا يقتصر دير السيدة العذراء مريم فى «درنكة» على استقبال الزوار الأقباط الأرثوذكس، لكن أيضًا الكاثوليك يحرصون على الاحتفال بالسيدة العذراء مريم، من خلال كنيسة «سيدة الانتقال»، التى تتواجد ضمن منطقة دير العذراء فى «درنكة».
وتشهد هذه الكنيسة احتفالًا سنويًا خلال فترة الصوم، التى تمتد للكاثوليك من ١ إلى ١٥ أغسطس، تنتهى بعيد العذراء مريم، ليجمع دير «درنكة» بذلك بين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس فى مكان واحد خلال صوم السيدة العذراء. وتتضمن تلك الاحتفالات فى كنيسة «سيدة الانتقال» الكاثوليكية بـ«درنكة» إقامة قداسات صباحية ونهضة روحية، تتخللها فقرة تراتيل مسيحية عن العذراء مريم.
إننا فى هذه الأيام الحزينة نشد على أيدى أهالى الشهداء وأسر المصابين.. نقول لهم كما جاء فى الكتاب المقدس "طُوبَى لِمَنْ اخْتَرْتَهُ وَ قَبِلْتُهُ يَا رَّبُّ لِيَسْكُنَ فِى دِيَارِكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ".. نقول لهم: لقد مات أولادهم فى بيت من بيوت الله وهم يعبدون ويصلون.. ماتوا لأنهم ذهبوا للقاء الله فى بيته فاختارهم إلى جواره.. فهنيئا لهم على هذه النهاية.
وأجدنى هنا أتوقف لأحيى موقف قداسة البابا تواضروس.. هذا الرجل العظيم الذى يثبت وطنيته فى كل وقت وحين.
ففى نفس يوم الحريق قبل ٩ سنوات.. قال حين أحرق الإخوان عشرات الكنائس بعد فضى الاعتصامين المسلحين فى رابعة العدوية ونهضة مصر.. قال مقولته الخالدة "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن".
وها هو الآن يسير على نفس المنوال قاطعا الطريق على دعاة الفتنة والتشكيك بعد أن خرج أحد صانعى الفتنة ليقول إنه لن يقبل العزاء قبل معرفة الفاعل.. وكأن الحادث مدبر بينما تقول أجهزة الدولة المعنية إنه ماس كهربائى تسبب فى حدوث حريق.. وسقط هذا العدد الكبير من الضحايا نتيجة الاختناق والتدافع للهروب.
فقد صرح قداسة البابا تواضروس الثانى بأن هناك شائعات وأكاذيب كثيرة خرجت عقب حريق كنيسة أبو سيفين بالجيزة، و"هذا ما ترفضه الكنيسة جملة وتفصيلا، كما نرفض توجيه الاتهامات والتقصير من قبل الآخرين".
البابا قال بلغة واضحة: "ما حدث قضاء وقدر ونحن نؤمن بالله كلنا، ونحن البشر فى إيد ربنا، وهو اللى بيدينا الحياة وهو اللى بيسمح بنهاية الحياة، ورغم ألم الحادث إلا أننا يجب ألا نفقد إيماننا، لأن من راحوا فى الحادث كانوا فى وقت صلاة".
ولا ختام أفضل من هذه الكلمات:
تحت الصليب تبكى عذراء فى نحيب
كيف أنى فارقتك يا ولدى الحبيب
جرى جميع دمك جرى العصارة
وكالعنب لحمك تحت المعصرة
يا لحزن أمك بحر المرارة
تنوح وتبكيك بدمها السكيب
امسكوك وجروك يا نجلى الوحيد
يا لعظم ما الموك يا ربى المجيد
على خدك لطموك بغيظ شديد
هل من معز عنك لقلبى ذا الكئيب
الرحمة لشهداء كنيسة أبوسيفين.. والعار لمن يحاول المتاجرة بدمائهم الطاهرة حتى قبل أن تجف.
ودائما وأبدا.. تحيا مصر.