محمد فودة يكتب: شهر رمضان.. "أيقونة" الخير و"مظلة" العمل الإنسانى
◄الشهر الكريم فرصة لإحياء العادات الجميلة واستعادة ذكريات الزمن الجميل
◄"فانوس رمضان" و"مدفع الإفطار" و"المسحراتى" و"صلاة التراويح" و"الخيام الرمضانية" تبعث البهجة والسعادة للصغار والكبار
◄صيام الشهر الفضيل دعوة روحانية لمراجعة النفس والتخلص من العادات السيئة
◄ليتنا نعيد بداخلنا الأشياء الجميلة التى كانت تميزنا عن سائر شعوب العالم
كلما حل علينا شهر رمضان فإننا نعيش عبق الماضى ونتذوق رحيق الأجواء المفعمة بالحنين ففى هذا الشهر الكريم نستعيد معاً تلك الأجواء والروحانيات المليئة بالحب والود والتراحم. وشهر رمضان بالنسبة لى يمثل كل المظاهر الإنسانية والروحانية المتشابكة والمتداخلة والتى نسعد بها من صلاة التراويح والخيام الرمضانية التى تنتشر فى كل مكان، وتبادل الزيارات التى تحافظ على ما تبقى من علاقات اجتماعية كانت تميزنا عن سائر شعوب العالم، فليتنا نتخذ من تلك الأيام المباركة فرصة لأن نعيد إحياء أشياء كثيرة افتقدناها وسط زحمة الحياة وبسبب انشغال البعض بالقيل والقال وتوافه الأمور، لقد كنت ومازلت شديد الارتباط بأيام شهر رمضان المبارك، والتى تغسلنى فى كل عام وتعيدنى طفلًا بريئًا نقيًا، تلك الأيام العطرة تمثل لى حالة خاصة جدًا وتعيدنى لأيام الصبا والطفولة، حينما كنا صغارًا تبدأ فرحتنا بالشهر الفضيل بشكل مبكر وبالتحديد فى "ليلة الرؤية" التى كانت تتخذ أشكالًا متنوعة تختلف من مجتمع لآخر ومن بلد لآخر، خاصة أن أبرز ما يميز هذه الاحتفالات المتزامنة مع قدوم ليلة الرؤية هو تلك المظاهر الفولكلورية المستوحاة من العادات والتقاليد التى ظلت أحد أهم وأبرز ما يميز مجتمعنا الشرقى، فحينما كنا صغارًا فى مسقط رأسى بمدينة زفتى فى محافظة الغربية كانت تلك الليلة من أجمل ليالى العمر، حيث أجواء البراءة والحب الحقيقى النقى والعلاقات الإنسانية الصافية التى لم تكن تعرف الزيف ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بلغة المصالح والتوازنات فكنا نعيشها بكامل تفاصيلها البريئة حتى مطلع الفجر نستمتع بأحلى لحظات العمر ونحن نقضيها فى استقبال الشهر الفضيل.
لذا فإنه يمكننى القول إن روحانيات الشهر الكريم تمثل مصدر سعادة للكثيرين ليس هذا فحسب بل إن أيام وليالى رمضان فى حد ذاتها مبعث البهجة فى النفوس، ونقطة فارقة فى حياتنا حيث التسامح والعلاقات الإنسانية النبيلة ، فقد كان يسود الدفء العائلى، وكانت اللمة التى تجمع كل أفراد الأسرة فى وقت واحد، تلك اللمة التى ضاعت وسط ركام الحياة القاسية، حيث تظل أيام وليالى شهر رمضان المبارك بمثابة النبع الذى لا ينضب أبدًا وبئر الروحانيات المتدفقة دائمًا بالمشاعر الفياضة، هذا النبع الذى كلما اغترفنا منه يزداد تدفقًا ويزداد روعة وجمالاً ليس هذا فحسب بل وقدم لنا أيضًا المزيد والمزيد من المشاعر النبيلة الممزوجة بطعم ليالى رمضان تلك الليالى التى تعيش بداخلنا وتسرى فى عروقنا وأجسامنا مسرى الدم وذلك لارتباطها بوجداننا ارتباطًا وثيقًا.
وحينما يتعلق الأمر بشهر رمضان فإنه من الطبيعى أن نعود بالذاكرة إلى تلك الأيام الحلوة والزمن الجميل، نعود إلى حيث أيام "مدفع رمضان" الذى حتى وإن كانت هناك أدوات ووسائل كثيرة ظهرت وأصبحنا نعرف من خلالها موعد أذان المغرب إلا أن فرحة سماع صوت المدفع كانت تصنع فى النفوس متعة خاصة جداً لا تقل عن متعتنا ونحن نستمع إلى تواشيح النقشبندى التى حفظناها عن ظهر قلب حينما كانت تذاع فى الراديو قبل موعد أذان المغرب بدقائق وكيف لا نحفظها وتخترق أفئدتنا وهى لا تزال بصوت النقشبندى تجعل من يسمعها تسرى فى جسده القشعريرة من شدة الخشوع ومن فرط الأداء المتقن الذى جعل هذا الصوت الملائكى لا يزال يعيش بيننا باعتباره أحد ملامح أيام وليالى رمضان جنباً إلى جنب مع "المسحراتى" الذى كان له فرحة تسعد الكبار والصغار، قبل أن يصبح الآن مجرد طقس فولكلورى بعد أن ارتبط بهذا الرجل الذى أصبح الآن يتجول فى المناطق الشعبية خوفا من الانقراض خاصة بعد أن تحول إلى مجرد عادة قديمة وهو ما ينطبق أيضاً على فانوس رمضان الذى على الرغم من التغيير الكبير الذى طرأ عليه وخاصة ظهور الفانوس الصينى، فإن فانوس رمضان القديم التقليدى سيظل ذكرى مرتبطة برمضان وخاصة الفانوس القديم الذى أحببناه من قلوبنا، حينما كانوا يصنعونه من الزجاج الملون، ويتم إضاءته بالشمعة قبل طغيان اللمبات الحديثة، وأيضا قبل أن تشوهه الأغانى والأشكال المتحركة.
شهر رمضان بالنسبة للشعب المصرى هو الصيام كما يجب أن يكون والصلاة فى أوقاتها وتبادل الزيارات التى تحافظ على ما تبقى من علاقات اجتماعية كانت تميزنا عن سائر شعوب العالم، حيث تخلق تلك الزيارات المتبادلة حالة خاصة جداً حينما يتخللها تناول المأكولات التى ارتبطت بالشهر الكريم وخاصة الحلوى مثل الكنافة والقطايف والمشروبات الرمضانية الشهيرة مثل العرقسوس وقمر الدين والخروب والسوبيا، وأتمنى أن نعود مثل الزمن الجميل وتعود الطقوس الحلوة مجددا وعلى رأسها "لمة العيلة" أو تجمع الأسرة والأصدقاء فهذه العادة كانت ولا تزال وستظل أحد الأعمدة الأساسية التى ترتكز عليها الشخصية المصرية عبر العصور والتى كانت دائمًا بمثابة حائط الصد الأول أمام محاولات طمس الهوية المصرية والاعتداء على القيم المتأصلة فى أعماق المجتمع، فتجمع أفراد الأسرة فى رمضان هو فى حقيقة الأمر كان يمثل حالة فريدة لا وجود لها فى أى مكان فى العالم على هذا النحو من دفء المشاعر والروحانيات كما أننا كنا قد تربينا على أن لمة العيلة على الإفطار فى رمضان تساوى الدنيا بما فيها من إحساس بالسعادة والشعور بالفرحة فمن خلالها يستطيع الصائمون رؤية الأهل والأصدقاء الذين ربما تكون قد باعدت بينهم ظروف الحياة الصعبة وضغوط العمل وانشغال كل منا بحياته الخاصة، خاصة أن ديننا الحنيف يحضنا على إشاعة الحب والود والوئام بين أفراد الأسرة كما اهتم الإسلام أيضًا بضرورة خلق حالة من الترابط الأسري فى المجتمع لأن ترابط المجتمع وسر قوته يعتمد فى المقام الأول على ترابط الأسرة فإن لم تكن الأسرة مترابطة أصيب المجتمع كله بخلل شديد.
ليتنا نتخذ من أيام وليالى شهر رمضان فرصة لأن يقترب كل منا نحو الآخر وأن نعيد بداخلنا اكتشاف تلك الأجواء الروحانية التى كانت تميزنا عن كل شعوب العالم ونحاول أن نجعلها فى صدارة حياتنا الآن، وأعتقد أن ذلك ليس بالأمر الصعب أو المستحيل، فقط نحن فى حاجة لأن نحيى بداخلنا الأشياء الجميلة التى بكل تأكيد لن تكلفنا أى شىء فى حين أنها وبكل تأكيد سوف تعود علينا بالكثير والكثير من النتائج الإيجابية، وخلاصة القول، إننا نعيش أيامًا مباركة تحفّها الملائكة، وتغمرها الروحانيات، وتذوب فيها الأفئدة حبًا وشوقًا لفعل الخير والإحسان، ففى تلك الأعمال الخير العظيم وفى الصدقة دواء للأمراض البدنية، وقد أجمع علماء الفقه والسيرة على أن الأعمال الصالحة فى شهر رمضان تتميز عن دونها مما يكون فى سائر شهور العام، بل إنها تعد من أشرف الأعمال وأفضلها وأعظمها على الإطلاق.