الأحد 29 سبتمبر 2024
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

محمد فودة يكتب: عقلى فى "عرفات".. وقلبى فى "المدينة المنورة"

الشورى

أحلى لحظات العمر عشتها فى "الروضة الشريفة" وحينما وقفت على "جبل عرفات"

الطواف حول الكعبة المشرفة بعث فى نفسى شعورا بالطمأنينة وأخذنى خارج حدود المكان والزمان 

"الحج" نقطة انطلاق حقيقية لتنقية القلوب والتخلص من منغصات الحياة

ليتنا نستثمر روحانيات هذه الأيام المباركة وننشر "المحبة" بعيداً عن لغة المصالح  

كلما سمعت تكبيرات الحج" لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك " أذوب شوقاً لمناسك الحج التى كلما حلت علينا تأتى وهى تحمل معها عبق الروحانيات والحنين لأعظم رحلة يمكن أن نقوم بها فى حياتنا ، فعلى الرغم من قيامى بأداء فريضة الحج عدة مرات فإن لى فى كل لحظة اشتياقا للعودة ، فقد تبدو تلك الأيام المباركة التى نعيشها الآن، من شهر ذى الحجة مجرد أيام روحانية نتبادل فيها التهانى بقدوم عيد الأضحى المبارك، كما هو معتاد فى مثل هذه المناسبات الدينية الكبرى، إلا أننى أراها من زاوية مختلفة تمامًا، فهى أيام مباركة عظّم الخالق سبحانه وتعالى من شأنها، وجعل فيها أسرارًا كونية يتوجب علينا أن نستثمرها بالشكل الأمثل، وبالطريقة التى تفوق كونها مجرد مناسبة لتبادل التهانى، بل علينا أن نجعل منها نقطة انطلاق حقيقية لتنقية القلوب والتخلص من منغصات الحياة التى، للأسف الشديد، تحولت إلى شبح يهدد استقرارنا الوجدانى نتيجة طغيان لغة المصالح، والبعد عن تعاليم الدين السمحة التى تحض على المحبة والود وسمو المشاعر والأحاسيس من أجل العيش فى سلام وسكينة وراحة بال.

إن الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة ووقفة عيد الأضحى وأيام العيد الكبير تمثل لى حالة خاصة جدا، إنها مناسبة تفوح بعبق الحب الإلهى، لا يجب أن تمر أمامنا مرور الكرام، دون أن نقول لبعضنا بعضًا كلمة طيبة، فالكلمة الطيبة تصنع المعجزات، فهذه الأيام تعد من مواسم الطاعة العظيمة فى السنة، فهذه الأيام المباركة فضّلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:  مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: وَلَا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"، وقال الله تعالى فى سورة الفجر (وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْر) وقد اختلف أهل العلم فى معرفة الليالى العشر فقيل هى العشر الأواخر من رمضان، كما فى رواية ابن عباس، وقيل العشر الأولى من المحرم كما فى رواية أخرى عنه، وقيل هى العشر الأولى من شهر ذى الحجة، وهو القول الراجح، وأيام العشر الأوائل من ذى الحجة ولياليها أيام خير وبركة يضاعف العمل فيها، ويستحب فيها الاجتهاد فى العبادة، وزيادة عمل الخير والبر بشتى أنواعه، فالعمل الصالح فى هذه الأيام أفضل من العمل الصالح فيما سواها من باقى أيام السنة، وقد علل بعض أهل العلم بأن الحكمة فى كون عشر ذى الحجة أفضل أيام الدنيا بأن أمهات الأعمال الصالحة والعبادات تجتمع فيها ولا تجتمع فى غيرها، فهى أيام الكمال، ففيها الصلوات كما فى غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع أو لم يجد الهدى، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون فى غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذى يدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولعلنى أتذكر الآن لحظة أن وطئت قدماى أرض المدينة المنورة عندما أديت فريضة الحج، عندما بدأت رحلتى إلى الحج بزيارة قبر الرسول الكريم، وقدر لى الوصول إلى الروضة الشريفة بسهولة ويسر دون عناء، وقمت بالصلاة فى هذا المكان الذى قال عنه الرسول الكريم: « ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة »، وتمكنت من الصلاة عدة مرات فى تلك البقعة الطاهرة بين قبر الرسول الكريم وبين المنبر الذى شرفه بالجلوس عليه ليخطب فى المسلمين ويعلمهم أصول دينهم، كما أنه هو منبر الرسول الكريم الذى شهد تألق الدولة الإسلامية حيث تشكلت ملامحها من داخل هذا المسجد الذى يحظى بقدر كبير من الإجلال والإكبار من جانب المسلمين الذين يفدون إليه من شتى أنحاء العالم تبركا ومحبة فى المكان الطاهر الذى يحفظ جسد أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام، ولا أنسى وقتها أن المدينة المنورة استقبلتنى وكأنها تفتح ذراعيها لتحتضننى بابتسامة صافية ونقية.

وعلى الرغم من أننى لم يحالفنى الحظ هذا العام بأن أكون بين زوار بيت الله الحرام، فإننى أكتب الآن عن تلك المناسبة العظيمة، وأتذكر حينما وقفت على جبل عرفات، فى مشهد مهيب لم ولن يتكرر فى أى مكان فى العالم، ووجدتنى وقد انهارت الدموع من عينىّ، وانتقلت من حال إلى حال، ورأيت الدنيا، بكل ما فيها، لا تساوى شيئًا، ووجدتنى دون أن أدرى متسامحًا مع كل من هم حولى، حتى من يناصبوننى العداء، نعم لقد أصبحت فى ثوانٍ معدودة متسامحًا مع الآخرين، متصالحًا مع نفسى، وكيف لا يكون الوضع على هذا النحو من الهيبة والإحساس بالتقوى والورع، وأنا أقف فوق بقعة من أطهر بقاع الأرض، هى جبل عرفات الذى تتجلى فيه رحمة الله، عز وجل، لعباده، فأصبح الدعاء مستجابًا فى هذا المكان، حيث لا يوجد حجاب بين العبد والخالق، جل جلاله، ومهما حاولتُ وصف ما عشته فى تلك اللحظات فإننى لا أستطيع أن أصف مدى شعورى وأنا أقف على جبل عرفات، ففى لحظات سريعة ذابت كل همومى وفاضت عيناى بدموع لم أرَ مثيلًا لها من قبل، خاصة وأنا أرفع أكف الضراعة إلى الله، عز وجل، على قمة هذا الجبل الذى قال عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «الحج عرفة»، وذلك فى إشارة واضحة لقيمة ومكانة وقدسية هذا الجبل المبارك، ومهما قلت ومهما كتبت عن هذه الأجواء فإنه لا يمكن بأى حال من الأحوال أن أصف تلك الحالة الروحانية التى غمرتنى فى هذه الأثناء، حيث لم أستطع أن أتمالك نفسى حينما شعرت بهذه القشعريرة التى سرت بين ضلوعى، فشعرت بأن جسدى يغوص بالكامل، دون أن أدرى، فى بئر عميقة مليئة بحالة من الوجد ومن الذوبان فى العشق الإلهى.

وللحق فإن هذا الشعور لا يمكن نسيانه، ولا أن يغيب عن الذاكرة مهما طال الزمن ومهما تعاقبت الشهور ومهما مرت السنون ومهما كانت طبيعة الشخص ومهما كان يتمتع بقوة التحمل، إلا أنه فى تلك اللحظات تتبخر الأحقاد وتختفى، كأنها لم تكن موجودة أصلًا، وتتلاشى الخلافات وتصبح هى والعدم سواء، وتذوب المطالب الدنيوية وكأنها مجرد فقاعات هواء لم تدُم سوى بضع ثوانٍ قليلة، ليحل محلها إحساس لا يعادله أى إحساس فى الدنيا، حيث تتولد داخل القلوب النقية والصافية رغبة أكيدة فى التقرب إلى الله بشكل حقيقى، والتزود بالتقوى والورع والصفاء والنقاء، وكلها صفات ربما تكون فى ظاهرها بسيطة وسهلة المنال، إلا أنها أمور لا يمكن أن يصل إليها أى شخص بسهولة، حيث تتطلب استعدادًا نفسيًا وتحضيرًا ذهنيًا من نوع خاص، كما تتطلب أيضًا استعدادًا وجدانيًا لا يمكن الوصول إليه بسهولة إلا بترويض النفس وكبح جماح المشاعر، خاصة غير السوية، التى تدفع البشر فى كثير من الأحيان نحو ارتكاب أفعال وتصرفات بعيدة تمامًا عن تعاليم الدين الإسلامى السمح، لقد كانت رحلة الحج، ولا تزال، تمثل بالنسبة لى حالة خاصة من المصارحة مع النفس، حيث أشعر وكأننى أتخلص من الذنوب ومن الخطايا فى غمضة عين، فتحولت وبقدرة قادر إلى شخص آخر لا يحمل لأحد أى حقد أو كره أو شماتة، حتى هؤلاء الذين أساءوا لى فى يوم من الأيام لم أعد أحمل لهم أى كراهية، لأن من عرف حلاوة التطهر وحلاوة التقرب إلى الله يعز عليه أن ينظر مرة أخرى إلى الخلف.

تم نسخ الرابط