الثلاثاء 18 يونيو 2024
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

لبيك اللهم لبيك "الحج".. رحلة القلب نحو الصفاء

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشفية

- لم يحالفنى الحظ بأن أكون بين "الحُجّاج" هذا العام.. لكنى مازلت أعيش على نور رحلتى الإيمانية إلى بيت الله الحرام

- ما أجمل التقرب إلى الله والتزود بالتقوى فى هذه الأيام المباركة

- روحانيات هذه الأيام فرصة لمد جسور المحبة دون أى غرض دنيوى أو مصلحة شخصية

نعيش الآن أياما مباركة، لا تقل بأى حال من الأحوال عن أيام شهر رمضان الكريم، والحق يقال فإن الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة ووقفة عيد الأضحى وأيام العيد الكبير تمثل لى حالة خاصة جدا، إنها مناسبة تفوح بعبق الحب الإلهى، لا يجب أن تمر أمامنا مرور الكرام، دون أن نقول لبعضنا بعضًا كلمة طيبة، فالكلمة الطيبة تصنع المعجزات، فهذه الأيام تعد من مواسم الطاعة العظيمة فى السنة، وفضّلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"  مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: وَلَا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".

الكاتب والإعلامى محمد فودة 

وقد تبدو تلك الأيام المباركة التى نعيشها الآن، بمناسبة وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك، مجرد أيام روحانية نتبادل فيها التهانى والزيارات، كما هو معتاد فى مثل هذه المناسبات الدينية الكبرى، إلا أننى أراها من زاوية مختلفة تمامًا، فهى أيام مباركة عظّم الخالق سبحانه وتعالى من شأنها، وجعل فيها أسرارًا كونية يتوجب علينا أن نستثمرها بالشكل الأمثل، وبالطريقة التى تفوق كونها مجرد مناسبة لتبادل التهانى والزيارات، بل علينا أن نجعل منها نقطة انطلاق حقيقية لتنقية القلوب والتخلص من منغصات الحياة، فالعمل الصالح فى هذه الأيام أفضل من العمل الصالح فيما سواها من باقى أيام السنة، وقد علل بعض أهل العلم بأن الحكمة فى كون عشر ذى الحجة أفضل أيام الدنيا بأن أمهات الأعمال الصالحة والعبادات تجتمع فيها ولا تجتمع فى غيرها، فهى أيام الكمال، ففيها الصلوات كما فى غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع أو لم يجد الهدى، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون فى غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذى يدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها.

الكاتب والإعلامى محمد فودة اثناء اداء فريضة الحج

ويوم عرفة من أيام الله تعالى شرفه الله وفضله بفضائل كثيرة منها أنه أفضل الأيام: لحديث جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأيام يوم عرفة"رواه ابن حبان، وروى ابن حبان من حديث جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِى بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ" وفى رواية: "إنَّ اللَّهَ يُبَاهِى بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ، فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي، قَدْ أَتَوْنِى شُعْثا غُبْرا ضَاحِينَ، كما أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة"، وروى البخارى بسنده: قالت اليهود لعمر إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر :إنى لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت وأين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: نزلت يوم عرفة إنا والله بعرفة قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا"، وإكمال الدين فى ذلك اليوم حصل لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين فى ذلك الموقف منهم أحد، وأمام إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال الله تعالى لنبيه "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ"، وإنه يوم عيد، فعن أبى أمامة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهى أيام أكل وشرب" رواه أبو داود، كما أن صيامه يكفر سنتين، وقال النبى صلى الله عليه وسلم "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله والسنة التى بعده" رواه مسلم.

وعلى الرغم من أننى لم يحالفنى الحظ هذا العام بأن أكون بين زوار بيت الله الحرام، فإننى أكتب الآن عن تلك المناسبة العظيمة، وأتذكر حينما وقفت على جبل عرفات، فى مشهد مهيب لم ولن يتكرر فى أى مكان فى العالم، ووجدتنى وقد انهارت الدموع من عينىّ، وانتقلت من حال إلى حال، ورأيت الدنيا، بكل ما فيها، لا تساوى شيئًا، ووجدتنى دون أن أدرى متسامحًا مع كل من هم حولى، حتى من يناصبوننى العداء، نعم لقد أصبحت فى ثوانٍ معدودة متسامحًا مع الآخرين، متصالحًا مع نفسى، وكيف لا يكون الوضع على هذا النحو من الهيبة والإحساس بالتقوى والورع، وأنا أقف فوق بقعة من أطهر بقاع الأرض، هى جبل عرفات الذى تتجلى فيه رحمة الله، عز وجل، لعباده، فأصبح الدعاء مستجابًا فى هذا المكان، حيث لا يوجد حجاب بين العبد والخالق، جل جلاله، ومهما حاولتُ وصف ما عشته فى تلك اللحظات فإننى لا أستطيع أن أصف مدى شعورى وأنا أقف على جبل عرفات، ففى لحظات سريعة ذابت كل همومى وفاضت عيناى بدموع لم أرَ مثيلًا لها من قبل، خاصة وأنا أرفع أكف الضراعة إلى الله، عز وجل، على قمة هذا الجبل الذى قال عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «الحج عرفة»، وذلك فى إشارة واضحة لقيمة ومكانة وقدسية هذا الجبل المبارك، ومهما قلت ومهما كتبت عن هذه الأجواء فإنه لا يمكن بأى حال من الأحوال أن أصف تلك الحالة الروحانية التى غمرتنى فى هذه الأثناء، حيث لم أستطع أن أتمالك نفسى حينما شعرت بهذه القشعريرة التى سرت بين ضلوعى، فشعرت بأن جسدى يغوص بالكامل، دون أن أدرى، فى بئر عميقة مليئة بحالة من الوجد ومن الذوبان فى العشق الإلهى.

وللحق فإن هذا الشعور لا يمكن نسيانه، ولا يغيب عن الذاكرة مهما طال الزمن ومهما تعاقبت الشهور ومهما مرت السنون ومهما كانت طبيعة الشخص ومهما كان يتمتع بقوة التحمل، فإنه فى تلك اللحظات تتبخر الأحقاد وتختفى، كأنها لم تكن موجودة أصلًا، وتتلاشى الخلافات وتصبح هى والعدم سواء، وتذوب المطالب الدنيوية وكأنها مجرد فقاعات هواء لم تدُم سوى بضع ثوانٍ قليلة، ليحل محلها إحساس لا يعادله أى إحساس فى الدنيا، حيث تتولد داخل القلوب النقية والصافية رغبة أكيدة فى التقرب إلى الله بشكل حقيقى، والتزود بالتقوى والورع والصفاء والنقاء، وكلها صفات ربما تكون فى ظاهرها بسيطة وسهلة المنال، إلا أنها أمور لا يمكن أن يصل إليها أى شخص بسهولة، حيث تتطلب استعدادًا نفسيًا وتحضيرًا ذهنيًا من نوع خاص، كما تتطلب أيضًا استعدادًا وجدانيًا لا يمكن الوصول إليه بسهولة إلا بترويض النفس وكبح جماح المشاعر، خاصة غير السوية، التى تدفع البشر فى كثير من الأحيان نحو ارتكاب أفعال وتصرفات بعيدة تمامًا عن تعاليم الدين الإسلامى السمح، لقد كانت رحلة الحج، ولا تزال، تمثل بالنسبة لى حالة خاصة من المصارحة مع النفس، حيث أشعر وكأننى أتخلص من الذنوب ومن الخطايا فى غمضة عين، فتحولت وبقدرة قادر إلى شخص آخر لا يحمل لأحد أى حقد أو كره أو شماتة، حتى هؤلاء الذين أساءوا لى فى يوم من الأيام لم أعد أحمل لهم أى كراهية، لأن من عرف حلاوة التطهر وحلاوة التقرب إلى الله يعز عليه أن ينظر مرة أخرى إلى الخلف.

الصفحة السابعة من العدد رقم 366 الصادر بتاريخ 13 يونيو 2024
 
تم نسخ الرابط