الدولة تضع الإنسان أولًا في ميزان العدالة

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- قانون الإجراءات الجنائية الجديد خطوة تُعيد الإنسان إلى قلب العدالة

- التصديق على القانون لحظة إصلاح حقيقي تتجاوز حدود النصوص

- إعادة بناء الثقة بين المواطن ومنظومة العدالة عبر مقاربة أكثر إنسانية

- حماية حرمة المنازل.. الضمانة التي تمنح المواطن شعورًا بالأمان والاستقرار

- بدائل الحبس الاحتياطي… انتقال نحو عدالة أكثر رحمة واتزانًا

- تعزيز دور المحامي.. حماية نفسية قبل أن تكون قانونية

- تأجيل تطبيق القانون.. حكمة تمنح المؤسسات فرصة للاستعداد وتفادي الارتباك

- القانون وحده لا يكفي.. يجب ترسيخ ثقافة احترام الضمانات وحقوق الإنسان

- رسالة الدولة بين السطور.. العدالة ليست سيفًا يُشهر بل ميزانا يُطمئن المواطن

لا يختلف اثنان على أن لحظات الإصلاح الحقيقي لا تُقاس بحجم القوانين الصادرة وحدها، بل تُقاس بروحها، وبصدق نواياها، وبمدى قدرتها على الاقتراب من الإنسان قبل أن تقترب من الأوراق.

ولعلّ قرار الدولة بالتصديق على قانون الإجراءات الجنائية بعد التعديلات الأخيرة كان واحدًا من تلك اللحظات التي تجعلنا نتوقف قليلًا، نسترجع شريط الواقع، ونحاول أن نستشف من بين السطور ما هو أعمق من مجرد تعديل تشريعي.

شعرتُ، وأنا أتابع هذا التطور، بأن الدولة تخطو خطوة مختلفة؛ خطوة تحمل في جوهرها اعترافًا واضحًا بأن العدالة لا تكتمل إلا حين يكون الإنسان هو البداية والنهاية في كل قانون.

ما لفت نظري منذ اللحظة الأولى هو أن هذا القانون لم يأتِ من فراغ، ولم يُكتب من منظور سلطوي جامد، بل بدا كأنه نابع من قراءة حقيقية لمشاعر الناس، لمخاوفهم، لآمالهم، ولرغبتهم العميقة في أن يشعروا بأن القانون ليس خصمًا، بل سندًا.

هناك دائمًا شعور يلازم المواطن حين يجد نفسه أمام إجراءات معقدة أو مواقف قانونية صعبة: هل سيُفهم؟ هل سيُسمع؟ هل ستُراعى كرامته؟ القانون الجديد حاول أن يجيب عن هذه الأسئلة بطريقة أكثر رقة وإنسانية، وكأنه يقول لكل مواطن: «لن أقترب منك بعصا، بل بميزان».

ولأن العدالة ليست مجرد ممارسة مؤسسية، بل حالة نفسية يعيشها الإنسان حين يشعر بأنه محمي، فقد رأيت في هذا القانون محاولة لإعادة ترميم العلاقة بين المواطن ومنظومة العدالة.

شعرتُ بأن الدولة تقول للناس بطريقة غير مباشرة إن الهدف اليوم ليس فقط ضبط النصوص، بل إعادة الطمأنينة إلى القلوب التي عانت طويلًا من القلق في المناطق الرمادية للقانون.

وهذا وحده يكفي لأن نشعر بأن هناك تحولًا في بوصلة التفكير.

أكثر نقطة أثّرت في شخصيًّا كانت تلك المتعلقة بحماية حرمة المنزل.

ليس هناك شعور يضاهي فزع المواطن حين يشعر بأن بيته، مساحته الخاصة، قد تكون معرضة للدخول المفاجئ أو التعامل غير المبرر.

حين يضع القانون ضوابط واضحة وصارمة لهذا الأمر، فإنه يحمي الإنسان قبل أن يحمي المنزل.

إنه يحمي شعوره بالأمان، وهو شعور لا يقدّر بثمن.

حين يشعر المواطن بأن الدولة تحترم باب منزله، وأنها لا تتجاوزه إلا لضرورة قصوى، فإن ذلك ينعكس على ثقته في المؤسسات وعلى إحساسه بالاستقرار.

أما التوسّع في بدائل الحبس الاحتياطي، فقد كان بالنسبة لي أكثر من مجرد تعديل.

كان إعلانًا واضحًا بأن الدولة تريد عدالة أكثر رحمة، أكثر توازنًا، وأكثر قدرة على تقدير ظروف الناس.

لأن الحبس الاحتياطي لم يكن يومًا تفصيلة صغيرة في حياة من يمر به. إنه قرار قد يغيّر مسار حياة كاملة.

ووجود بدائل متعددة يعني أن الدولة بدأت تنظر إلى الإنسان وهو في أضعف لحظاته، وتقول له: «لن أُغلّب القسوة على الضرورة، ولن أختزل العدالة في غرفة مغلقة».

هذه اللمسة الإنسانية لا يمكن تجاهلها؛ لأنها ببساطة تؤكد أننا أمام دولة تحاول قدر الإمكان أن تجعل القانون خادمًا للإنسان، وليس العكس.

وكان لافتًا أيضًا أن القانون يمنح مساحة أوسع لدور المحامي.

وفي الحقيقة، فإن الإنسان حين يشعر بأنه يواجه موقفًا قانونيًا وحده، مهما كان بسيطًا، تتضاعف داخله المخاوف.

وجود المحامي إلى جانبه ليس رفاهية، بل هو شكل من أشكال الحماية النفسية قبل القانونية.

القانون الجديد أدرك هذه الحقيقة، وأعاد للمحامي دوره الطبيعي كعين ثانية ترى، وكتف يسند، وصوت يحمي من الانزلاق في أخطاء الإجراءات أو ضغوط اللحظة.

وقد أراحني كذلك أن تطبيق القانون لن يكون فوريًا.

هناك حكمة كبيرة في أن تمنح الدولة الوقت الكافي لتأهيل المؤسسات والكوادر الفنية لكي تتعامل مع نصوص جديدة قد تُغيّر أسلوب العمل اليومي.

التسرع في تطبيق التعديلات كان يمكن أن يخلق ارتباكًا أو سوء فهم، لكن التأجيل المدروس يعني أن الدولة لا تريد فقط قانونًا جديدًا، بل تريد تطبيقًا سليمًا وواعيًا يحقق الغاية من التغيير.

ومع كل هذه الخطوات، يبقى السؤال المُلحّ: هل يكفي القانون وحده؟ وأقول هنا بكل يقين: لا؛ لأن العدالة لا تسكن القوانين، بل تسكن النفوس.

لن يكتمل هذا التحول إلا حين تتربى ثقافة احترام الضمانات، وثقافة تحمل المسؤولية، وثقافة أن كل قرار يمسّ حرية الإنسان يجب أن يكون قرارًا محسوبًا لا اعتباطيًا.

من يطبق القانون يجب أن يؤمن بروحه، لا بنصوصه فقط.

ومن يتعامل مع البشر يجب أن يدرك أن لكل فرد ظروفه وحكايته وألمه ورجاءه.

ومع ذلك، فإن خطوة مثل هذه تمنحني شعورًا قويًا بالاطمئنان.

هناك رسائل أحيانًا لا تُقال بالكلمات، لكنها تُفهم من طريقة اتخاذ القرار.

والتصديق على هذا القانون كان إحدى تلك الرسائل التي تشعر معها بأن الدولة لم تعد تنظر إلى الإنسان كجزء من معادلة إدارية، بل كغاية في حد ذاته.

كقيمة لا ينبغي المساس بها، وكعنصر أساسي في معادلة الاستقرار.

تخيلتُ، وأنا أتابع هذه الخطوات، شكل المستقبل لو استمرت الدولة على هذا النهج.

مجتمع يشعر فيه المواطن بأن حقوقه ليست محل تفاوض، وأن كرامته ليست ورقة يمكن التلاعب بها.

جهاز قضائي أكثر هدوءًا ونضجًا، ومسار قانوني يُعاد بناؤه على أسس تجعل الإنسان في قلبه، لا على هامشه.

في هذه الحالة، يصبح القانون ليس مجرد سياج، بل يصبح حضنًا آمنًا يحتوي من يقع في مأزق، ويعيد بناء ثقته بدولته.

ومع كل ذلك، فإن أجمل ما في هذا القانون - وما دفعني للكتابة من الأساس - هو تلك الروح الجديدة التي تسري بين سطوره.

لقد شعرت وأنا أقرأه بأن الدولة تتجه نحو مرحلة أكثر احتواءً، أكثر نضجًا، وأكثر قدرة على موازنة القوة بالرحمة.

شعرت بأن هناك نية واضحة لأن يتحول القانون من مجرد كلمات محفوظة إلى تجربة إنسانية يشعر بها المواطن عندما يخطو داخل مكتب التحقيق، أو يقف أمام القاضي، أو يسمع طرقات مفاجئة على باب منزله.

ولعل أجمل ما في الأمر كله أن هذا القانون يعيد الإنسان إلى قلب التشريع.

يعيد تلك اللمسة التي تجعل المواطن يشعر بأن القانون كُتب من أجله، لا من أجل السلطة.

وأن العدالة ليست سيفًا، بل ميزانًا.

وأن الدولة حين تحمي حقوق الناس، فإنها تحمي نفسها قبل أن تحميهم.

هذه المعاني وحدها كافية لأن نقول إننا أمام خطوة تستحق التقدير، وأمام فصل جديد في علاقة المواطن بالقانون، وأمام بداية يمكن أن تفتح أبوابًا أرحب نحو إصلاحات أعمق في المستقبل.

إن الوطن لا يقفز إلى التغيير دفعة واحدة، بل يتحرك خطوة بخطوة.

وهذه الخطوة الأخيرة تقول الكثير.

تقول إننا نملك شجاعة المراجعة، نملك إرادة الإصلاح، ونملك إيمانًا بأن الإنسان هو الأصل… وأن الدولة لا تكون قوية بحق إلا حين تنحاز لإنسانها، وتحميه، وتجعل ميزان العدالة يقف إلى جواره قبل أن يقف في مواجهته.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 439 الصادر بتاريخ  20 نوفمبر 2025

 

تم نسخ الرابط