◄الرئيس السيسى يضع النقاط فوق الحروف فى زيارة شديدة الأهمية للخرطوم
كعادته دائمًا وهو يسير عكس التوقعات ضاربًا القدوة والمثل فى اقتحام الأزمات واختيار الحلول الأصعب فاجأ السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى الجميع بزيارته التاريخية إلى السودان الشقيق وذلك فى توقيت صعب وبالغ التعقيد، فى ظل المتغيرات السريعة والمتلاحقة فى المجالات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية سواء فى مصر أو فى السودان، فجاءت هذه الزيارة للعاصمة السودانية الخرطوم خطوة فى منتهى الأهمية لبحث عدد من الملفات المشتركة بين البلدين أبرزها على الإطلاق ملف سد النهضة الإثيوبى إلى جانب العديد من القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك من جانب البلدين الشقيقين.
ومن خلال متابعتى الدقيقة للزيارة وما ترتب عليها من مفردات إستراتيجية شديدة الأهمية أبرزها ما جاء فى الدراسة المهمة للمركز المصرى للدراسات الإستراتيجية فإنه يمكننى القول إن هذه الزيارة التاريخية للرئيس السيسى تكشف وبشكل لافت للنظر عمق التوجه المصرى نحو الأشقاء فى الجنوب ومدى إدراك القاهرة لوحدة المصير والمصالح المشتركة بين مصر والسودان إلى جانب الوعى التام بأهمية المنطقة الإقليمية وأمن البحر الأحمر وشمال إفريقيا خاصة فى ظل التحديات المشتركة العديدة التى يواجهها البلدان، فضلاً عن التهديدات المتعددة التى تواجه الأمن القومى فى الدولتين، وما يتطلبه ذلك من ضرورة الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى درجة أعلى يتمثل فى واقع إستراتيجى جديد، يفوق كثيراً ما كانت عليه تلك العلاقات فى الماضى ولتتحول من مجرد صياغات سياسية إلى واقع حقيقى يعكس على أرض الواقع تفعيل مرحلة جديدة من العلاقات الإستراتيجية.
وعلى الرغم من أن زيارة الرئيس السيسى إلى السودان الشقيق هى الأولى من نوعها عقب تشكيل مجلس السيادة الانتقالى وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة فإنها تحمل الكثير من المعانى والدلالات فهى فى تقديرى الشخصى سبب أساسى فى خلق أوضاع جديدة مختلفة، وروح إيجابية فى العلاقات المصرية- السودانية، كما أن أهمية توقيت الزيارة يكمن أيضاً فى أنها جاءت فى أعقاب تغيير الإدارة الأمريكية ووصول الديمقراطيين برئاسة "جو بايدن" إلى البيت الأبيض، وما يصاحب ذلك من العديد من التغيرات المحتملة فى السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وتأثير ذلك على السودان بشكل كبير خاصة بعد رفع العقوبات التى كانت مفروضة على الخرطوم من قبل.
واللافت للنظر أن هذه الزيارة التاريخية للرئيس السيسى تأتى أيضا وسط حراك دبلوماسى وعسكرى كبير بين البلدين، فقد اختتم مؤخراً رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية زيارة للخرطوم استمرت يومين، تم خلالها توقيع اتفاقية للتعاون المشترك فى مجالات التدريب والتنسيق العسكرى وذلك وسط تحديات مشتركة عدة ظلت تواجه مصر والسودان معاً مما كان له عظيم الأثر فى تطوير وتنمية العلاقات بين البلدين فهذه التحديات كانت ولا تزال وستظل دليلاً قوياً ودافعا مهما للوقوف على حقيقة المصير المشترك واعتبارات الأمن القومى التى تحكم البلدين، وهو أمر فى منتهى الأهمية ولا يمكن أن يتجزأ بأى حال من الأحوال.
وهناك مسألة فى منتهى الأهمية هى أن تلاقى المصالح المشترك بين البلدين حول التهديدات الناجمة عن إنشاء سد النهضة سواء ضد مصر أو السودان قد ساهم وبشكل كبير على إضفاء نوع من التقارب بين البلدين، وإعلان الرئيس السيسى دعمه الكامل للسودان الشقيق مشددا على أن أمنه واستقراره جزء لا يتجزأ من أمن مصر واستقرارها وهو ما يمكن أن نلمسه بوضوح فى قوله (إن للقاهرة نهجا إستراتيجيا لدعم كافة جوانب العلاقات الثنائية مع الخرطوم من أجل التعاون والبناء والتنمية، وذلك ترسيخا للشراكة والعلاقات بين الشعبين)، معرباً عن مساندة القاهرة كافة جهود تعزيز السلام والاستقرار فى السودان خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخه. لقد كشفت هذه الزيارة التاريخية للرئيس عبد الفتاح السيسى لدولة السودان الشقيق عن أهمية التقارب بين البلدين وخاصة فيما يتعلق بملف سد النهضة الذى يعد بالفعل أحد الملفات الرئيسية بين البلدين خاصة بعد قرار أديس أبابا بدء الملء الثانى فى يوليو المقبل سواء حدث اتفاق أم لم يحدث، وذلك ينطوى على خطورة بالغة على الأوضاع بشكل عام فى المنطقة إذا لم يتم اتفاق ملزم قبل المرحلة الثانية لملء السد باعتبار أن اكتمال المرحلة الثانية يجعل من الصعب تغيير الأوضاع وبالتالى يصبح الخطر واقعاً، وقد اقترحت السودان إجراء مباحثات رباعية بحيث يتم إشراك وسطاء بجانب الاتحاد الإفريقى وأن تكون المشاركة مباشرة، بديلاً عن النمط القديم الذى تسعى أديس أبابا من خلاله كسب المزيد من الوقت وصولا لاتفاق يكون مقبولاً لكل الأطراف، وهذا بالطبع أمر مهم للدول الثلاث والإقليم أيضا، وبالتالى يكون ذلك مقدمة لمشروع تعاون يدعم السلام وليس مهدداً له.
والأمر الذى يستحق الإشادة أيضاً هو أن دولة السودان كانت قد اقترحت توسيع مظلة التفاوض بإضافة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الاتحاد الإفريقى فى دورته الجديدة برئاسة دولة الكونغو الديمقراطية، وهذا الطرح السودانى يأتى على خلفية ما شهدته المفاوضات والمباحثات السابقة والتى استمرت طويلا دون إحراز أى تقدم فى حل الخلافات الفنية والقانونية بين الدول الثلاث وهذا التوجه لم يأت من فراغ وإنما نتيجة شعور السودان بالتهديد والخطر خاصة بعد إعلان وإصرار إثيوبيا للملء الثانى لبحيرة السد فى يوليو المقبل والتى تبلغ 5.13 مليار متر مكعب من المياه دون التوصل إلى اتفاقية فنية وقانونية، وما حدث فى الملء الأول للبحيرة من تأثيرات سلبية على محطات مياه الشرب والإمداد الكهربائى مما يعد تهديدا للأمن القومى والسدود السودانية خاصة فى الروصيرص وسنار، وتهديد واضح وصريح لحياة ٢٠ مليون مواطن يقطنون أسفل النيل الأزرق، وهو الأمر الذى أدى إلى تحرك الدولة السودانية للحفاظ على مشاريعها المائية والاقتصادية عن طريق التحرك الدبلوماسى الإقليمى والدولى، وتوضيح تهديدات سد النهضة الإثيوبى عن طريق المقترح بشأن إشراك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى، وهو الطرح الذى وافقت عليه مصر. وفى هذا الصدد هناك أيضاً جانب فى منتهى الأهمية يتمثل فى أن الإدارة الأمريكية الجديدة تعد بالفعل أحد المتغيرات الرئيسية التى دفعت بالتحرك الدولى تجاه قضية سد النهضة الإثيوبى، ففى تصريحات مهمة جاءت على لسان وزارة الخارجية الأمريكية لفتت الانتباه إلى اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية نحو دعم الجهود البناءة للسودان ومصر وإثيوبيا من أجل التوصل إلى اتفاق بخصوص قضية سد النهضة، وهى تصريحات تحمل العديد من الدلالات الإيجابية حيث يتم النظر إليها باعتبارها تعكس حرص الإدارة الأمريكية الجديدة على إنجاح المفاوضات والمباحثات بشأن سد النهضة، وهى تصريحات مهمة أيضاً كونها جاءت بعد وقف العمل بقرار الرئيس الأمريكى السابق والذى كان يتعلق بمنع المساعدات المقدمة إلى إثيوبيا على خلفية تعنتها فى ملف سد النهضة وحرص القيادة الإثيوبية على إفشال وساطة الإدارة الأمريكية فى المفاوضات السابقة.
نحن بالفعل أمام زيارة تاريخية قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى السودان الشقيق.. زيارة أقل ما توصف به أنها زيارة رسم إستراتيجيات جديدة قائمة على وحدة المصير ومشروعية الهدف.