لم تكن المبادئ التى جاءت بها ثورة يوليو جديدة، فقد كانت هى بذاتها مبادئ الحركة الوطنية المصرية التى صيغت عبر أجيال من الكفاح لتحقيق الاستقلال ولتأكيد حق الشعب فى المشاركة فى الحكم عن طريق التمثيل السياسى ولتنمية البلاد والاستفادة من من مصادر ثروتها ولإشاعة العدل الاجتماعى، وقد برزت أهمية الهدفين الأخيرين فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية واتخذ شكل المطالبة بتنمية مصر وتصنيعها وتحديد الملكية الزراعية وتأكيد حق العمال فى تكوين النقابات وتحديد ساعات العمل وتأمين الوظائف. ولم يكن تحقيق هذه الأهداف سهلا فقد تعارضت كلها مع مصالح العالم الغربى الذى كان يحكم قبضته على مصر عند قيام الثورة، وكان إحكام هذه القبضة من الأهداف الأساسية لحركة الاستعمار الغربى منذ القرن التاسع عشر التى رأت فى موقع مصر الإستراتيجى وعلى الأخص بعد شق قناة السويس أهمية خاصة للحفاظ على الإمبراطوريات التى كونتها فى ذلك الوقت، وقد ازدادت أهمية مصر بعد اكتشاف منابع البترول الثمينة فى منطقة الشرق الأوسط وبعد ظهور دولة إسرائيل فى أربعينيات القرن العشرين، فمنذ ذلك التاريخ لم تعد مصر معبرا للتجارة العالمية فقط، بل أصبحت أيضا قاعدة لتأمين البترول كما كان الاستيلاء عليها ضمانا لسلامة إسرائيل التى أصبح الحفاظ عليها شاغلا أساسيا للعالم الغربى وعلى الأخص للولايات المتحدة الأمريكية. ويحتاج الحفاظ على سلامة إسرائيل بالإضافة إلى تزويدها بالسلاح إلى تحجيم كل دولة متاخمة يمكن أن تشكل خطرا عليها وتأتى مصر فى مقدمة هذه الدول، فلديها الموارد والسكان والتاريخ التى يمكن أن تجعلها دولة مؤثرة وقادرة على تهديد إسرائيل أو على الأقل إملاء الإرادة عليها، وهو أمر وضع الغرب نصب عينيه ألا يحدث. كان التاريخ شاهدا على إمكانات مصر الكبيرة عندما تجد قائدا رشيدا، فقد كانت تجربة محمد على ماثلة للأذهان وهى التجربة التى نقلت مصر إلى دولة استطاعت أن تتحدى قوى الاستعمار الصاعدة فى أوائل القرن التاسع عشر. وكان مقدرا لتلك الحركة الوطنية التى تولت السلطة فى مصر فى 23 يوليو 1952 أن تصطدم مع قوى الغرب فقد كانت لكل منها أهداف متناقضة، كان هدف الثورة استقلال مصر وتنميتها وإطلاق طاقات أبنائها فى الوقت الذى كان هدف قوى الاستعمار الغربى، استمرار مصر كدولة تابعة ضعيفة يحكمها حاكم يأخذ أوامره منها كما كان حالها منذ توقيع معاهدة 1840 التى فيها تحجيم مصر محمد على. وعندما جاءت الثورة كانت معركة الاستقلال فى أوجها ولم يكن هناك بد من انسحاب القوات البريطانية التى بدا واضحا أن بقاءها أصبح باهظ النفقة ومستحيلا أمام المد الشعبى الكاسح الذى لم يستطع حكام مصر أنفسهم إيقافه. وجاء التفكير فى صيغة جديدة للسيطرة على مصر وكان أمل بريطانيا هو أن تكون اتفاقية الجلاء فى سنة 1954 بداية علاقة جديدة مع حكام مصر الجدد إلا أن هذا الأمل قد خاب فلم يكن تحقيق الاستقلال عند هؤلاء الحكام إلا خطوة أولى ولازمة للبدء فى تنمية مصر وتصنيعها ولم يكن من الممكن لمصر القيام بأية عملية للتنمية دون تحقيقه. وجاء الصدام مبكرا ودخلت الثورة المصرية أولى معاركها لبناء السد العالى ولتسليح الجيش ولتمويل مشروعاتها الصناعية والتى رفض الغرب المساهمة فيها على الرغم من حسن النية الذى أبدته الثورة نحوه وعديد القوانين التى سنت لتشجيع الاستثمار الأجنبى والمغازلة الواضحة للولايات المتحدة الأمريكية، التى لم يكن يدرك كثيرون فى ذلك الوقت مقدار ارتباطها العضوى بدولة إسرائيل، التى كانت تخطط منذ لحظة إنشائها لتحقيق مشروعاتها التوسعية على حساب الأرض ومشروعاتها المالية للهيمنة على المنطقة بكاملها. وقد أمكن لمصر أن تحقق جزءا من برامج التصنيع ومشروعها النهضوى خلال سنوات الاستقلال عن الغرب بفضل المساعدة التى وجدتها من مختلف الشعوب وعلى الأخص الشعب العربى وكذلك من الاتحاد السوفيتى الغريم الأكبر للولايات المتحدة فى سنين الحرب الباردة. لذلك ستظل مصر دائما وللأبد مستقلة مهما مرت فترات عجز أو تبعية، وستتحقق نهضتها على يد قائدها عبد الفتاح السيسى ولو كره المغرضون والذين يحاولون جرها إلى معارك أو السيطرة عليها بأى وسيلة ابتزاز أو تهديد.