أود اليوم أن أتحدث عن نموذج للمرأة المصرية العظيمة، وهى كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، فمنذ أواسط العشرينيات تتربع سيدة الغناء العربى فوق عرش راسخ، الملوك يجيئون ويذهبون، السياسات تتقلب وتتبدل، الثورات تشتعل وتخبو، الثوابت لا تستقر والاستقرار لا يدوم، والمتغيرات لا تنتهى، لكن صوت أم كلثوم خارج المنافسة وشخصيتها بعيدة عن رياح تعصف بكل شيء إلا محبتها.
تنتعش أرواحنا فى الصباح ونحن نترنم معها: "يا صباح الخير يا اللى معانا"، ومع زحف الليالى لا يملك العاشقون وغير العاشقين إلا أن يستسلموا فى رضا ومحبة للصورة العذبة التى تتجسد فى أدائها العبقرى: "يا ليل أنا واللى أحبه نشبهله فى صفاك"، ثم تضيق بنا الدنيا فنصرخ معها: "أروح لمين"، ويقسو الأحبة فنلجأ إليها: "حب إيه"، وتقترب أشباح الفراق ولوعته مع "فات الميعاد"، وتحاصرنا الأشواق فنعترف فى غير مكابرة: "بعيد عنك حياتى عذاب"، ولا نخجل من الدموع عندما تباغتنا "رجعونى عينيك لأيامى اللى راحوا". الشارع هو الحكم ومحبته الطاغية للست دليل ساطع على تهافت وتفاهة المتشنجين من أعداء الحياة، أقلية تعيش خارج التاريخ، وينطبق عليها شعر إيليا أبو ماضى المضيء: "إن نفسا لم يشرق الحب فيها هى نفس لم تدر ما معناها"، لذا كان وما زال الذين يحرمون الغناء هم يعيشون خارج الزمن وليسوا منا ولا من أهل هذه الأرض أبدا.
لذا وأنا أسهب فى حديثى عن سيدة الغناء أتذكر ما فعله المهرج المضلل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول، والذى كان صاحب رأى سلبى صريح فى أم كلثوم وفن الغناء بشكل عام، فقد طالب فى إحدى رسائله إلى الملك فاروق، بتهذيب الأغانى واختيارها ومراقبتها والتشديد فى ذلك، ويلح على حسن اختيار ما يذاع على الأمة من المحاضرات والأغانى، على حد قوله. لكن حسن البنا نفسه لم يدر أن الملك فاروق نفسه كان من عشاق أم كلثوم وقد أغدق عليها بالمحبة والأوسمة والنياشين والإعجاب ذاتيا من ناحية ومسايرة للرأى العام الذى يجل أعظم مطربة فى التاريخ العربى من ناحية أخرى، لا ينشغل البنا بالإعجاب الملكى والشعبى، فالعداء أصيل للإبداع والفن ليس صحيحا ما قد يزعمه الإخوان المعاصرون من أن إمامهم الشهيد يعادى الفن الهابط المبتذل وحده، وبذلك تنجو أم كلثوم من مقصاتهم، أكذوبة لن يتورعوا عنها بانتهازيتهم المعروفة، لكن إمامهم البنا يكذبهم عمليا، فقد رفض حضور حفل فى نادى ضباط الجيش يشارك فيه كل رؤساء الأحزاب المصرية لأن أم كلثوم ستغنى فى نهاية الحفل الوطنى.
والحقيقة أن الشعب المصرى وأغلبيته تنتمى إلى الإسلام قبل الإخوان وبعدهم، مطالب بالانتباه إلى طبيعة الحياة التى يدعو إليها الإخوان تحت راية الإسلام والشعارات الدينية، يتصورون أنهم يفهمون صحيح الدين ويحتكرون الدفاع عن أحكامه ومبادئه فليتهم يراجعون كلمات مضيئة للإمام الأكبر الشيخ محمد شلتوت يجيب بها عن سؤال لشاب يحب الموسيقى والغناء ويخشى أن يكون حبه مخالفة لتعاليم الإسلام، فأجابه بقول الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر فى القرن الثالث عشر الهجرى: "من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار". والحقيقة يكمن جزء كبير من عبقرية أم كلثوم فى تجاوز الدائرة المصرية الضيقة مهما تتسع لتتتحول إلى ظاهرة عربية عملاقة تحظى بإجماع من الإعجاب لا يناله الزعماء والسياسيون، وأذكر فى رواية "شقة الحرية" للروائى السعودى غازى القصيبى، حيث تدور الأحداث فى القاهرة خلال نهاية الخمسينيات والستينيات، إذ تمثل فيها أم كلثوم جزءا من النسيجين المصرى والعربى، إذ بطل الرواية البحرينى يسخر من النظام لكن تظل أم كلثوم طاغية التأثير على حياته وأحلامه وكوابيسه وهو ما يتجلى بوضوح فى انفعالاته عندما يقع فى حب الابنة شيرين وأمها إلهام معا، إنه مأزق يترجم حلم دال، مقدم بتشكيل فنى وتميز، إلهام بجانبه صوت أم كلثوم ينطلق من راديو السيارة محملا بكل الرغبات الأرضية، بكل شهوات التراب.
إنها أم كلثوم التى كانت وما زالت معجزة العصر، وعدوة أعداء الحياة. إلى روحك السلام.