محمود الشويخ يكتب: « الأسطورة الباقية » كيف صنع السادات معجزة النصر العظيم ؟
- ماذا فعل "رجل الحرب والسلام" لخداع الإسرائيليين فى ٦ أكتوبر وتحقيق الانتصار الساحق؟
- كواليس خاصة عن "غرفة الحرب".. وتفاصيل ليلة المعركة وتحريك القوات العسكرية .
- سر شفرة العبور لأول مرة.. واعترافات قادة إسرائيل عن "الهزيمة الصعبة" أمام "الداهية .
- ما سر حرص الزعيم الراحل على زيارة "السيد البدوى" قبل اتخاذ "القرارات المصيرية"؟
لم يكن السادات رجلًا عاديًا.. هو رجل الأقدار، الذى تولى قيادة بلد يعانى نكسة ساحقة، ليحقق النصر فى ست ساعات، فله قراراته الصائبة، وشطحاته التى ثبت – بمرور الوقت – أنها صائبة أيضًا. ولذلك، سيمثل للمؤرخين بعد سنوات لغزًا عصيًا على الحل وللمفكرين السياسيين سؤالًا بلا إجابة، وللعسكريين مقاتلا يسحق كل الخطط والإستراتيجيات.
ليس ملاكًا وليس شيطانًا، بل هو فرعون مفترى عليه.. دافع عن شرف أمته فى لحظة غدر، ورغم كثرة المعارك الضارية التى خاضها، والمواقف الصعبة التى صادفها، والقرارات الجريئة التى أصدرها، يظل الشيء الوحيد الذى يربط جميع مواقفه وقراراته وضرباته أنه مصرى، معجون بطين الأرض السمراء التى أخرجته، ولم يكن يومًا من رواد القصور إنما من هواة "العبور".
العبور من منصب إلى منصب.. ومن السجن إلى الحرية.. ومن الهزيمة الفادحة التى عصفت بالقلوب إلى الانتصار الذى أذهل العقول.. وكما كان حصوله على منصب الرئيس مفاجأة للجميع، كان تحقيقه الانتصار مفاجأة أيضًا.. فكيف للرجل الذى عمل سائقًا وتباعًا فوق سيارة نقل وشيَّالًا وضابطًا مطاردًا وسجينًا أن يصبح رئيس مجلس الأمة ثم رئيس الجمهورية؟
رجل داهية، وفلاح أصيل، وأسطورة تتكرَّر قليلًا.. عدة حكايات تشهد على وجه آخر له بعيدًا عن دوائر القرار، وقصور الحكم، والجلسات الدبلوماسية.
كان الوجه الآخر يتجلّى تحديدًا فى زياراته المستمرة إلى مسقط رأسه، قرية ميت أبوالكوم، فقد اعتاد الذهاب إليها أسبوعيًا فى الظروف العادية، لأنه يرتاح لها نفسيًا وإنسانيًا، ويتباسط مع الناس إلى حد خلعه رداء الرؤساء ليصبح «عُمدة» حقيقيًا يجلس مع الناس ليحل مشكلاتهم البسيطة، ففى إحدى المرات جلس بالجلباب يُصلح بين سيدة وحماتها بسبب خلاف على جاموسة، وبعد أن فصَل بينهما، شرب الشاى مع أهل البيت، وخرج لتمشية سريعة فى القرية ثم عاد إلى منزله.
وقبل أى قرار تاريخى، كزيارة الكنيست، كان يذهب إلى ضريح السيد البدوى فى طنطا، ليستشيره، ويفعل ما يرتاح له قلبه بعدها، ويقول مقربون منه إنه فعلها لاتخاذ قرارى العبور واتفاقية كامب ديفيد.
تلاعب بكل الأوراق، فلم يعد معشوقًا للمصريين فقط، ففى الولايات المتحدة أجرت إحدى المجلات استفتاءً للشعب الأمريكى لاختيار شخصية سياسية أجنبية تحكم أمريكا.. وجاءت النتيجة مذهلة.. واختارت الأغلبية السادات، رغم أنه فى ذلك الوقت كان محاصرًا يمن يهاجمونه ويستخفون بقراراته فى القاهرة.
من يهيلون بالتراب على كل إنجازاته وإيجابياته، يتجاهلون أنه انتصر، وأعاد الأرض التى حاربت لأجلها مصر لعشرات السنين، ومن دونه، كانت الأرض ستظل ناقصة للأبد. ومن لا يرونه "رجل السلام بعيد النظر" عليهم أن ينظروا الآن بعين فاحصة مدققة بعين الاعتبار والإنصاف لما وصلت إليه الأمور والشعوب، فمن كان يرفض مصافحة إسرائيلى، يلهث نحو السلام متأخرًا.. بعد الرجل الذى حسم القضية قبل أكثر من 40 عاما.
شغل منصبًا حساسًا على المستوى الدولى فى فترة اضطرابات لا نهائية.. فكان له ما أراد.. ومن شدة اليأس، دفن المصريون رؤوسهم فى الرمال ولاذوا بملجأهم التاريخى.. النكت والسخرية من الرئيس، وحين يئس الجميع تمامًا، كشف الرجل عن خطة المراوغة والإرباك، وأمر بإطلاق النار فى ليلة عيد الغفران، فكان المشهد رهيبًا، والمفاجأة هائلة للمصريين قبل الجنود المرتخين على الجانب الآخر من القناة، حتى إن وزير الحرب الإسرائيلى لم يصدق ما حدث، وقال عبارته الشهيرة: "معقول المصريين يحاربوا؟!"
لم يكن المصريون هم أصحاب المفاجأة السعيدة التى أغضبت العالم. كان هذا الرجل الأسمر، الذى انتصر انتصارًا فخمًا بكل المقاييس العسكرية والشعبية، وجلس على طاولة المفاوضات، وجازف بحياته وذهب إلى دار العدو ليرفع يده بالسلام، واسترد الأرض مقابل أقل قدر من الدماء.
ومن اعتبروا السلام خيانة قومية، أثبت لهم الزمن أنهم على باطل، وأنه كان سابقًا لعصره، وأن قضية السلام كانت هدفًا لم ينجح من يعارضونه فيه فى تحقيقه حتى الآن.. ويساومون فى الحصول على ربع ما جناه بدهائه السياسى وقدرته على الحرب.. والمفاوضات.. وإدارة السلام.
حين تجلس لتراقب مسيرته، وتشاهد شريط حياته، ترى الكثير من المآسى والمتناقضات والكوارث والمفاجآت واللحظات السعيدة، فلم يكن ما يفعله مفهومًا للجميع، إلا أنه كان حكيمًا يجرى الأمور بمقادير، كتب لحياته سيناريو لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله، فكان الممثل الأفضل، الذى يلعب دور البطولة فى الحياة.. فلا يؤثر فى الناس بدموعه ومشاهده الصعبة، إنما يغير حياتهم تمامًا، ويثبت لهم حتى بعد اغتياله، أنه لولاه لكانوا يصارعون حتى الآن من أجلِ الأرض.. ومن أجل البقاء.
إننى لا أجد، ونحن نحتفل بذكرى النصر العظيم، خير من "خطاب النصر" الذى ألقاه "بطل الحرب والسلام" فى أكتوبر ١٩٧٣ لنستعيد بعض كلماته معا.. ونتخيله وهو يلقيها الآن بصوته..
"… عاهدت الله وعاهدتكم أن قضية تحرير التراب الوطنى والقومى هى التكليف الأول الذى حملته ولاء لشعبنا وللأمة ، عاهدت الله وعاهدتكم على أن لن أدخر جهداً ولن أتردد دون تضحية مهما كلفنى فى سبيل أن تصل الأمة إلى وضع تكون فيه قادرة على دفع إرادتها إلى مستوى أمانيها ذلك أن اعتقادنا دائماً كان ولايزال أن التمنى بلا إرادة نوع من أحلام اليقظة يرفض حبى وولائى لهذا الوطن أن تقع فى سرابه أو فى ضبابه.
عاهدت الله وعاهدتكم على أن نثبت للعالم أن نكسة ١٩٦٧ كانت استثناء فى تاريخنا وليست قاعدة وقد كنت فى هذا أصُر عن إيمان عميق يستوعب (٧٠٠٠) سنة من الحضارة ويستشرف آفاقاً أعلم علم اليقين بأن نضال شعبنا وأمتنا لا يعلو عنها وللوصول إليها وتأكيد قيمها وأحلامها العظمى ٠٠ عاهدت الله وعاهدتكم على أن جيلنا لن يسلم أعلامه إلى جيل سوف يجيء بعده منكسة أو ذليلة وإنما سوف نسلم أعلامنا مرتفعة هاماتها عزيزة صواريها وقد تكون مخضبة بالدماء ولكننا ظللنا نحتفظ برؤوسنا عالية فى السماء وقت أن كانت جباهنا تنزف الدم والألم والمرارة.
عاهدت الله وعاهدتكم على أن لا أتأخر عن لحظة أجدها ملائمة ولا أتقدم عنها لا أغامر ولا أتلكأ وكانت الحسابات مضنية والمسئولية فادحة لكننى أدركت كما قلت لكم وللأمة مراراً وتكراراً إن ذلك قدرى وإنى حملته على كتفى ، عاهدت الله وعاهدتكم وحاولت مخلصاً أن أفى بالوعد ملتمساً عون الله وطالباً ثقتكم وثقة الأمة وإنى لأحمد الله. ثانياً : لقد كان كل شيء منوطاً بإرادة هذه الأمة ، حجم هذه الإرادة وعمق هذه الإرادة وما كنا نستطيع شيئاً وما كان أحد ليستطيع شيئاً لو لم يكن هذا الشعب ، ولو لم تكن هذه الأمة ، لقد كان الليل طويلاً وثقيلاً ولكن الأمة لم تفقد إيمانها أبداً بطلوع الفجر وإنى لأقول بغير ادعاء إن التاريخ سوف يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطاً وإنما كانت كبوة عارضة وإن حركتها لم تكن فوراناً وإنما كانت ارتفاعاً شاهقاً. لقد أعطى شعبنا جهداً غير محدود وقدم شعبنا تضحيات غير محددة وأظهر شعبنا وعياً غير محدود وأهم من ذلك كله أهم من الجهد والتضحيات والوعى فإن الشعب احتفظ بإيمان غير محدود وكان ذلك هو الخط الفاصل بين النكسة والهزيمة.. ولقد كنت أحس بذلك من أول يوم تحملت فيه مسئوليتى وقبلت راضياً بما شاء الله أن يضعه على كاهلى.. كنت أعرف أن إيمان الشعب هو القاعدة وإذا كانت القاعدة ، سليمة فإن كل ما ضاع يمكن تعويضه وكل ما تراجعنا عنه نستطيع الانطلاق إليه مرة أخرى وبرغم ظواهر عديدة بعضها طبيعى وبعضها مصطنع من تأثير حرب نفسية وجهت إلينا فقد كان سؤالى لنفسى ولغيرى فى كل يوم يمر هل القاعدة سليمة؟ وكنت واثقاً أنه ليس فى قدرة أية حرب نفسية مهما كانت ضراوتها أن تمس صلابة هذه القاعدة، ومادامت القاعدة بخير فإن كل شيء بخير وغير ذلك لن يكون إلا زوبعة فى فنجان كما يقولون.
لست أنكر أننا وُجِهنا بمصاعب جمة، مصاعب حقيقية.. مصاعب فى الخدمات ، مصاعب فى التموين.. مصاعب فى الإنتاج، مصاعب فى العمل السياسى أيضاً . وكنت أعرف الحقيقة ولكننى لم أكن فى موقف يسمح لى بشرحها.. كنت أعرف أننا نحاول أن نجعل الحياة مقبولة للناس وفى نفس الوقت فإن علينا أن نحتاط لما هو منتظر وكنت واثقاً أنه سوف يجيء يوم تظهر فيه الحقيقة لغيرى كما كانت ظاهرة لى ، وحين تظهر الحقيقة فإن الناس سوف يعرفون وسوف يقدرون وأحمد الله.
لقد كانت هناك إشارة واضحة إلى وجود تمزق فى ضمير الأمة العربية كلها وكنت أرى ذلك طبيعياً لأسباب اجتماعية وفكرية وزادت عليها مرارة النكسة ، كان هناك من يسألوننى ويسألون أنفسهم: هل تستطيع الأمة أن تواجه امتحانها الرهيب وهى على هذه الحالة من التمزق فى ضميرها؟!
كنت أقول إن هذا التمزق فضلاً عن أسبابه الطبيعية يعكس تناقضاً بين الواقع والأمل وليس فى ذلك ما يخيف بل كنت أعتقد أنه ليس هناك شفاء لضمير الأمة ولا راحة له إلا عندما تواجه الأمة لحظة التحدى ولم أكن فى نفس الأوقات على استعداد للدخول فى مناقشات عقيمة، هل نعالج التمزق قبل مواجهة التحدى؟ وكان رأيى أن الأمم لا تستطيع أن تكشف نفسها أو جوهرها إلا من خلال ممارسة الصراع وبمقدار ما يكون التحدى كبيراً بمقدار ما تكون يقظة الأمة واكتشافها لقدراتها كبيرة ، لست أنكر وجود خلافات اجتماعية وفكرية فذلك مسار حركة التاريخ ولكننى فى نفس الوقت كنت أعرف أن الأمم العظيمة عندما تواجه تحدياتها الكبرى فإنها قادرة على أن تحدد لنفسها أولوياتها بوضوح لا يقبل الشك ، كنت مؤمناً بسلامة وصلابة دعوة القومية العربية وكنت مدركاً للتفاعلات المختلفة التى تحرك مسيرة أمة واحدة. ولكننى كنت واثقاً أن وحدة العمل سوف تفرض نفسها على كل القوى وعلى كل الأطراف وعلى كل التيارات لأننا جميعاً سوف نعى أن هذا الظرف ليس مساواة بين الاجتهادات وإنما هو الصراع بين الفناء والبقاء لأمة بأسرها وأحمد الله.
ولقد كنت أعرف جوهر قواتنا المسلحة ولم يكن حديثى عنها رجماً بالغيب ولا تكهناً. لقد خرجت من صفوف هذه القوات المسلحة وعشت بنفسى تقاليدها وتشرفت بالخدمة فى صفوفها وتحت ألويتها.
إن سجل هذه القوات كان باهراً ولكن أعداءنا الاستعمار القديم والجديد والصهيونية العالمية، ركزت ضد هذا السجل تركيزاً مخيفاً لأنها أرادت أن تشكك الأمة فى درعها وسيفها ، ولم يكن يخامرنا الشك فى أن هذه القوات المسلحة، كانت من ضحايا نكسة 1967 ولن تكون أبداً من أسبابها.
كان فى استطاعة هذه القوات سنة ١٩٦٧ أن تحارب بنفس البسالة والصلابة التى تحارب بها اليوم لو أن قيادتها العسكرية فى ذلك الوقت لم تفقد أعصابها بعد ضربة الطيران التى حذر منها عبد الناصر أو لو أن تلك القيادة لم تصدر قراراً بالانسحاب العام من سيناء بدون علم عبد الناصر.
إن قواتنا لم تعط الفرصة لتقاتل عام ١٩٦٧ إن هذه القوات لم تعط الفرصة لتحارب دفاعاً عن الوطن وعن شرفه وعن ترابه ، لم يهزمها عدوها ولكن أرهقتها الظروف التى لم تعطها الفرصة لتقاتل.
إن القوات المسلحة المصرية قامت بمعجزة على أعلى مقياس عسكرى ، ولقد شاركت مع جمال عبد الناصر فى عملية إعادة بناء القوات المسلحة ثم شاءت الأقدار أن أتحمل مسئولية استكمال البناء ومسئولية القيادة العليا لها. إن القوات المسلحة قامت بمعجزة على أعلى مقياس عسكرى استوعبت العصر كله تدريباً وسلاحاً بل وعلماً واقتداراً وحين أصدرت لها الأمر أن ترد على استفزاز العدو وأن تكبح جماح غروره فإنها أثبتت نفسها أن هذه القوات أخذت فى يدها بعد صدور الأمر لها زمام المبادرة وحققت مفاجأة العدو وأفقدته توازنه بحركاتها السريعة.
إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً أمام عملية يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ ولست أتجاوز إذا قلت إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم ٦ أكتوبر سنة ٧٣ حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياز خط بارليف المنيع وإقامة رؤوس جسور لها بعد أن أفقدت العدو توازنه فى 6 ساعات.
لقد كانت المخاطرة كبيرة والتضحيات عظيمة لمعركة ٦ أكتوبر خلال الساعات الست الأولى من حربنا كانت هائلة فقد العدو توازنه إلى هذه اللحظة.
وإذا كنا نقول ذلك اعتزازاً وبعض الاعتزاز إيمان فإن الواجب يقتضينا أن نسجل من هنا وباسم هذا الشعب وباسم هذه الأمة ثقتنا المطلقة فى قواتنا المسلحة.. ثقتنا فى قياداتها التى خططت وثقتنا فى شبابها وجنودها الذين نفذوا بالنار والدم، ثقتنا فى إيمان هذه القوات المسلحة فى قدرتها على استيعاب هذا السلاح.
أقول باختصار إن هذا الوطن يستطيع أن يطمئن ويأمن بعد خوف أنه قد أصبح له درع وسيف".
عاش البطل.