نتطلع دائمًا ونسعى لأن نملأ قلوب وعقول أبنائنا وشبابنا بحسن التوكل على الله، وكيف أن التوكل على الله وتفويض الأمر إليه سبحانه، وتعلق القلوب به جل وعلا من أعظم الأسباب التى يتحقق بها الخير المطلوب ويندفع بها المكروه، وتقضى بها الحاجات، وكلما تمكنت معانى التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق، وهذا هو حال جميع الأنبياء والمرسلين والصالحين، وكافة الطامحين للوصول لأسمى الغايات فى الدنيا والآخرة.
فلا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل كما لا ينبغى الركون إلى الأسباب وحدها، فخالق الأسباب قادر على تعطيلها، وأما عدم السعى فإنه ليس من التوكل فى شيء، وإنما هو اتكال أو تواكل، ورغم أن بين التوكل والتواكل حرفا واحدا فإنهما أبعد ما يكونان عن بعضهما البعض، والتاريخ والماضى والحاضر صدرت إلينا الدروس والعبر ودائمًا ما تكون التجربة خير دليل وتاريخنا مملوء بقصص واقعية جاءت أهم نتائجها بعد حسن التوكل على الله والسعى وعدم التواكل والانتظار، ولعل حديث الرسول الكريم الذى تربينا عليه ودرسناه فى أول مراحلنا الدراسية كان "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، وكان هذا الحديث أمرًا ربيًا نبويًا بحسن التوكل وترك التواكل. وما دفعنى للحديث عن الأمر وتشجيع الشباب وحثهم على حسن التوكل وإبراز ماهية التوكل وفضله وفضائله عندما بدأت كعادتى كل عام فى الأسبوع الأخير من العام الميلادى بالاحتفال برأس السنة الميلادية الجديدة، فأقوم بتدبر السور والآيات التى تحدثت عن المسيح عيسى ابن مريم وعن أمه مريم البتول، وهو أمر تعودت عليه منذ سنين، وأحاول الحرص عليه، ولكن فى هذا العام ومع زخم الأحداث وفى الوقت الذى كان يحتفل فيه إخوتنا وأشقاؤنا شركاء الوطن من الأقباط بالأعياد، كما هو معتاد كل عام. استوقفتنى هذه الآية العظيمة الموجهة لأمنا مريم البتول: "وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" من سورة مريم، بطريقة خاصة وكأنى أقرأها لأول مرة شعرت برسالة واجبة الإرسال إلى الجميع من أبنائنا وإخوتنا، نعم وجدت الرسالة هى "وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ". هذه الآية الكريمة الموجهة لخير نساء العالمين مريم ابنة عمران، هى خير دليل على الأمر الإلهى الربانى بالتوكل على الله والأخذ بالأسباب وعدم التواكل، يأمرها القادر الذى أمره بين الكاف والنون ويقول لها "هُزي"، وهى فى أشد لحظات الوَهَن والضعف آية تخاطب "أُمًا ضعيفة واهنة" فى لحظات أو قبل أو بعد الولادة، تُأمر أن تهز أو تحرك جذع نخلة.
عزيزى القارئ الكريم لك أن تتمعن فى حكمة ومغزى ومفاد هذه الآية، ففى ظل ما نتابع جميعًا فتياتنا وبناتنا فى لحظات الولادة، وكيف أن العائلة بالكامل والأقارب وأقارب الأقارب والجيران وجيران الجيران الكل يلتف حولها والأطباء والمصطلح الأشهر فى السينما المصرية والواقع "جهزوا الميه السخنة" وتجهيز ما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات، بينما رب العزة يأمر العذراء مريم أم المسيح عيسى ابن مريم روح الله، التى كانت "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا، قال يا مريم أنى لك هذا، قالت هو من عند الله"، وهى فى قمة الوهن (المخاض والولادة) أن تهز جذع النخلة. نعم يأمرها بالتوكل عليه والأخذ بالأسباب وعدم التواكل وهو القادر على أن يكفل لها كل وأى شيء دون أى أسباب، فسبحانه مسبب الأسباب وخالقها، القادر سبحانه الذى رزقها بالمسيح وهى عذراء، وكان يرزقها فى المحراب بالرزق الوفير، كان ممكنا ألا تقوم ببذل أى جهد، لكى تأكل وهى فى ضعفها وعزلتها ووهنها، نعم توقفت كثيرًا مع تلك الآية العظيمة فما أعظمك وأحكمك وأعدلك يا إلهى العظيم، هل يستطيع أحد منا تحريك نخلة أو جذع نخلة لتسقط التمر أو الرطب؟ فما بالنا بتلك الضعيفة الرقيقة فى أشد لحظات ضعفها ووهنها؟ ولكنه درس ربانى عظيم فى حسن التوكل عليه سبحانه فيناديها ويدعوها لتحرك الجذع، وهو القادر على أن يغذيها ويطعمها ويكفيها دون أى عناء أو حركة، ولكنه التوكل على الله والأخذ بالأسباب والدعوة للعمل وعدم التواكل. وبرغم تقارب الكلمتين "توكل - تواكل" من بعضهما فإن الفرق بينهما كبير، فالمتوكّل يعتمد على نفسه، ويتصف بالنشاط والعمل والمثابرة، أمّا المتواكل فيعتمد على غيره ولا يخطو خطوة واحدة إيجابية فى حياته، مطمئنًا على رزقه وحياته وصحته وعدم الخوف من الآخرين، متصفًا بالصبر والتحمل، والحمد دائمًا وتقبل السراء والضراء، وكيف لا؟ والله هو من يتولى شئونه، فيفوز برضى الله عليه ويساعده ويحفظه من السوء ويضع مفاتيح الخير أمامه ويهديه دائمًا لاتّباع الطريق الصائبة ويثيبه على سعيه فى الحياة، أمّا المتواكل فإنّه لا يمتلك الصبر والتحمّل ولا يدرك أنّ نقص الرزق والصحّة والمال نتيجة تخاذله. يعيش فى الخوف دائمًا فهو ضعيف الإيمان وكسله هو ما يدفعه للجلوس وعدم الإقدام على العمل والسعى، فيفقد رضى الله ولا يحظى بتوفيق الله وتيسيره ولا يستجيب لدعائه فلا يفعل ولا ينوى.. يتكلمّ كثيراً ولكنه لا ينفّذ شيئًا، وللتوكل والإقبال على الله نتائج تراها وقتية غير البعيدة المضمونة بضمان الله عز وجل، فالمتوكل كثير الفعل والدعاء ينوى وينفّذ ما نوى، تراه مثلًا للتواضع ويرى الحياة والخلق ملكا للخالق ونحن عابدون فيها ساعين للعيش والعبادة فليس لأحد أن يتكبر على الآخر ما دمنا متشابهين لا يميزنا سوى أعمالنا، شاعرًا بالبهجة والفرح عند الحصول على ما يريد ويشعر بمدى إنجازاته سواء المال أو النجاح نتيجة الكد والاجتهاد، بينما التواكل يدفع صاحبه للغرور ورمى حموله وواجباته على الناس ويرى نفسه الأفضل دائمًا لقلّة معرفته بالدين الصحيح وأحكام التقوى لا يشعر بالفرحة فهو قد اعتاد الجلوس ولم يشعر بلذة تعبه وثمرة جهده.
عزيزى القارئ خذ بالأسباب، توكل اجتهد حتى فى أحلك لحظاتك وأصعبها وأجهدها، وثق تمامًا بأن الله سيغنيك وسيكفيك وسيعطيك، واعلم أن الحياة توكل لا تواكل، عطاء لا أخذ، إنتاج وعمل وسعى فرغم أن بين التوكل والتواكل حرفا واحدا هجائيا فإنهما يبعدان عن بعدهما البعض بعد الموت عن الحياة واجعل منهجك دائمًا هو ذاك الأمر الربانى "وهُزي".