التعليم الفنى هى القضية المهمة التى تجاهلناها فى العقود الماضية، هى الطريق إلى المستقبل، لكننا نحتاج رؤية وإستراتيجية متكاملة للنهوض به، خاصة أن الدولة توليه اهتمامًا غير مسبوق، فالحديث عن إنشاء جامعات تكنولوجية فى كل محافظات مصر تقبل 80٪ من الحاصلين على الدبلومات الفنية و20% من حاملى الثانوية العامة، هو تقدير كبير وفتح أبواب الأمل أمام خريجى المدارس الفنية. من أهم أهداف الدولة المصرية النهوض بالصناعة والزراعة، والعمل على تقديم خريج على أعلى درجة من التأهيل والمواكبة لمتطلبات التطور التكنولوجى المذهل لسوق العمل المحلية والإقليمية والدولية، وهو هدف مهم للغاية فى تخفيض نسبة البطالة وتحقيق عائدات ودخل إضافى من العملات الأجنبية لمصر.
لذلك فالرئيس عبدالفتاح السيسى يولى النهوض بالصناعة والتعليم بصفة عامة والتعليم الفنى بصفة خاصة اهتمامًا كبيرًا خاصة أن الكليات النظرية والمبالغة فى زيادة أعداد الخريجين من كليات الآداب والحقوق والتجارة تمثل عبئًا على الدولة والخريج نفسه لذلك لابد من إعادة تأهيل هؤلاء الخريجين بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل أو دعم إقامة مشروعات صغيرة لهم توفر فرص عمل مناسبة ومفيدة للاقتصاد المصرى وحركة الإنتاج. الحقيقة أننى قرأت تصريحات صحفية للدكتور خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالى، تقول إن هناك 6 جامعات تكنولوجية جديدة ستفتح أبوابها قريبًا أمام الدارسين بعد افتتاح 3 جامعات تكنولوجية من قبل هى: القاهرة الجديدة وقويسنا وبنى سويف، وأشار إلى أن الجامعات التكنولوجية تقبل 80٪ من طلاب الدبلومات الفنية و20٪ من الحاصلين على الثانوية العامة وأن هذه الجامعات تعمل على تقديم خريجين فى تخصصات مهمة تحتاجها سوق العمل. الحقيقة أن حديث الدكتور خالد عبدالغفار يتوافق تمامًا مع أولويات الدولة المصرية وأهدافها ويجسد أن الدولة تولى اهتمامًا كبيرًا بتحقيق هذا الأمر والإنفاق عليه وتوفير كافة الإمكانيات من أجل نجاحه سواء بإنشاء الجامعات التكنولوجية خاصة أن الهدف الرئيسى هو إنشاء جامعة تكنولوجية فى كل محافظة من محافظات الجمهورية، تتلاءم وتتوافق التخصصات بها مع أهم ما يميز كل محافظة وما تشتهر به من مجالات وصناعات وأيضًا تؤهل أبناء هذه المحافظات من خريجى الدبلومات الفنية ذات الـ3 والـ5 سنوات والمعاهد المتوسطة، وأن التقدم للالتحاق بهذه الجامعات يخضع لاختبارات معينة تؤهله للالتحاق أو تحول دون التحاقه. الهدف نبيل لكنه لن يتحقق بالشكل المطلوب وربما سيكون مصيره مثل تقدم 300 ألف خريج لوزارة الاتصالات للحصول على دورة تدريبية تستمر لمدة عام إلا أنه لم ينجح سوى عدد محدود للغاية وهو ما يشير إلى ضعف التعليم التقليدى لأبنائنا، وحتى نكون أكثر صراحة ووضوحًا نطرح السؤال: ماذا كان حال التعليم الفنى فى مصر خلال العقود الماضية؟
وسوف أجيب من واقع معايشتى لهذا الواقع، لقد كان شعار طلاب الدبلومات الفنية من نام وارتاح كتب له النجاح، ونرى خلال امتحانات نهاية العام للدبلومات الفنية سواء لسنوات النقل أو شهادة التعليم الفنى، الكتب داخل اللجان كل طالب مع نفسه تحت عين ونظر وبصر المراقبين، إن اتضحت الرؤية وأصبح للتعليم الفنى رؤية واضحة وخارطة طريق متمثلة فى نظام التعليم الفنى القائم على الجدارات الذى يوليه نائب الوزير للتعليم الفنى أ.د. م محمد مجاهد وسيتم تعميم النظام الجديد على مدارس التعليم الفنى لإعداد خريج فنى ماهر تطلبه سوق العمل. ناهيك عن عدم الحضور للمدرسة ودائمًا كانت تهمة "البلطجة والصياعة" توجه لأعداد كبيرة من طلاب الدبلومات كانوا يعانون من الضياع واللا أمل، ويتمنون مجرد الحصول على ورقة تثبت أنهم يحملون مؤهلًا متوسطًا لا علاقة له بسوق العمل ولا يعلمون شيئًا عن الحد الأدنى أو أبجديات التخصص الذين درسوا فيه، بما يعنى أن 3 سنوات ضاعت من عمر هؤلاء الطلاب بلا فائدة أو عائد. فى عقود الترهل وزمن "الكهنة"، كل شيء يتألم من الفوضى، فالزراعة نهشت أيادى التعديات 500 ألف فدان من أجود الأراضى فى العالم لا تحتاج إلى مرافق ناهيك عن المبيدات والسمعة السيئة ومعاناة الفلاحين والصناعة التى كانت مجرد "يافطات" على المصانع. كان الشعار ليه ننتج طالما أننا نستطيع نشتريه من الخارج؟ ليه نزرع طالما نقدر نشتريه من الخارج؟ لم يكن فى دولة الترهل وزمن الكهنة أى مشروع لمصر كانت تعيش لمجرد أن تأكل أو تشرب وروائح الفساد تفوح وتزكم الأنوف بل تخنقها وتكتم على أنفاسها، فى زمن الكهنة ضاع الطموح، وغاب الأمل وانعدمت الرؤية، كان شعار "الطغمة) "إذا خرب بيت أبوك.. إلحق لك قالب(. الحقيقة إن الرئيس عبدالفتاح السيسى وبكل أمانة وموضوعية وأمانة أمام المولى عز وجل انتشل هذا الوطن من غياب السقوط والضياع وأحيا فيه الأمل والحلم، وأعاد البعث لمشروع بناء مصر، وتحولت الكهنة فى عهده إلى مستقبل واعد لأنه رسخ التراحم والأمانة والشفافية، وأنقذ المصريين البسطاء من قاع اللا آدمية واقتحم كل المجالات والقطاعات دون استثناء، فظهرت صورة مصر فى بهاء وبريق ووضع يده على كل احتياجات ومتطلبات بناء الدولة الحديثة، فخاض معركة البناء وسطر ملحمة التنمية التى تتصدى الآن للأزمات والصدمات. من أهم الأحلام المصرية التى اغتيلت فى دولة الترهل والكهنة خلال العقود الماضية هو (التعليم الفنى) الذى تقدمت به الدول الكبيرة الآن ماليزيا والصين وغيرهما من الدول، والحقيقة أن الدولة من خلال التصريحات الصحفية والإعلامية تولى اهتمامًا كبيرًا بملف التعليم الفنى والحرص على تقديم خريج على أعلى مستوى، وتقيم الجامعات التكنولوجية من أجل تحقيق هذا الهدف. لكن السؤال أيضًا ما هو حال التعليم الفنى الآن؟ وهل وصل إلى الطموح الذى نريده من إصلاح وتطوير ومواكبة؟ هل أصبح على الأرض بنفس طموحاتنا غير المحدودة أم مازالت العشوائية والفوضى والارتجالية ونقص الإمكانيات وغياب المدرسين المتخصصين وعدم وجود الرؤية والفكر للمزج بين النظرى والعملى، وهل يحصل الطلاب على دورات أو فترات فى التدريب العملى بالمصانع والاحتكاك بالخبرات والمعدات التى تتسق مع تخصصهم.
طالب المدارس الفنية يحتاج دعمًا نفسيًا يخلصه من الإحساس بالدونية مقارنة بطالب الثانوية العامة.. يحتاج أن نقول له إنه ليس أقل بل ربما أهم من طالب الثانوية العامة، يحتاج أن نخبره بأن الدولة تراهن عليه فى مشروعها الوطنى للتقدم ..يحتاج اهتمامًا ورعاية داخل المدرسة وخلق روح معنوية مختلفة وجديدة تشجعه على التفانى والكفاح ليكون طالبًا على درجة كبيرة من التأهيل والعلم والتدريب متطلعًا بقوة إلى المستقبل الأفضل، وأن يعلم أن الدولة توليه اهتمامًا غير مسبوق وتوفر له كافة الإمكانيات وتتيح له فرصة استكمال تعليمه الجامعى فى جامعات التكنولوجيا وغيرها ولذلك عليه أن يجتهد ويتفانى فى دراسته. طالب التعليم الفنى يحتاج أيضًا تعلم اللغات المختلفة وأن نغير من الأنماط التقليدية للمدارس الفنية وعدم إشعاره أنه مجرد "كمالة عدد".. لابد أن ننقل إليه اهتمام الدولة به وبتعليمه وتدريبه، نسبة الزيادة فى عدد المدارس الفنية وصلت إلى ما يقرب من 33٪ وهو ما يجسد اهتمام الدولة بهذا النوع المهم من التعليم، فلابد أن نعلم أن لدينا فى مصر 1995 مدرسة تعليم فنى منها 1373 مدرسة صناعية و881 تعليم تجارى و269 مدرسة زراعية و129 مدرسة فندقية، علينا أن نستغل هذا العدد ونرتقى بإمكانياته وتوفير متطلبات ومقومات نجاحه ونحوله إلى مشروعات صغيرة ومتوسطة، كطاقة إنتاجية وصناعية تحقق عوائد اقتصادية تساهم فى تطويرها وتزويدها بأحدث معدات التدريب والتأهيل والإنتاج أيضًا. لك أن تتخيل أن لدينا فى مصر 269 مدرسة زراعية، لماذا لا تشمل مزارع للثروة الحيوانية والداجنة والإنتاج الزراعى حتى ولو بشكل مصغر؟ لماذا لا تكون لدينا 269 وحدة إنتاجية تقدم منتجاتها إلى السوق المحلية وتساهم فى التوسع الزراعى؟ لو أن كل طالب أسند إليه استصلاح وزراعة فدان على مدار سنوات دراسته، ليكون مشروع التخرج الخاص به فإننا أمام الاستفادة من آلاف الأفدنة أو مشروع للإنتاج الحيوانى والداجنى أو المناحل أو غيرها التى تساهم فى تقديم منتجات آمنة للسوق المحلية والمستهلك المصرى بإشراف الخبراء والمدرسين وأهل التخصص فى هذه المدارس تدعمها وزارة الزراعة. والسؤال: هل استفادت وزارة الصناعة من 1373 مدرسة للتعليم الصناعى؟ هل ربطت بينها وبين الوحدات والمشروعات الصناعية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر؟ إن امتلاك الخيال والرؤى أمر مهم للنجاح ولقد عودتنا الدولة المصرية على مدار الـ 7 سنوات الماضية أنها تعمل بشكل متقارب بروح الفريق الواحد تحقق التكاملية بين وزارات ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص أيضًا، لابد من تنفيذ برنامج دراسى نظرى وعملى وتدريبى وتأهيلى على أعلى مستوى وتحقيق المستهدف من بناء وتقديم خريج على درجة عالية من الحرفية لديه فرصة كبيرة فى الالتحاق بسوق العمل وفرصة أخرى فى الالتحاق بالتعليم الجامعى من خلال الجامعات التكنولوجية. المهم فى الأمر هو الجدية والمتابعة والتقييم الدائم والمستمر وعلاج الثغرات ونقاط الضعف ومناطق الترهل والتخاذل ولابد أن تمضى العملية التعليمية فى هذه المدارس بحسم وجدية وعدم تفريط فى تحقيق الأهداف المرجوة وليس للشو والمظهرية، وفى النهاية النتيجة لا تعبر عن حجم الاهتمام لذلك لابد من الرقابة المستمرة على هذه المدارس وتقييم التجربة على فترات متقاربة ووضع الاختبارات الموضوعية التى تحدد أين نقف من نجاح هذه التجربة المهمة التى ستحدث الفارق فى المجتمع المصرى ومسيرة التقدم المنشود.
الحقيقة التعليم الفنى هو الرهان الحقيقى على المستقبل، لكن فى مصر علينا أن نقضى على الصورة النمطية والتقليدية لخريجى التعليم الفنى أو جميع الصنايعية بالإضافة إلى عدم تقليل الدراما منهم أو قيمتهم ووضعهم فى إطار مجتمعى يليق بأهمية دورهم فى التقدم وأيضًا لابد من العمل على تغيير نظرة المجتمع لهم، لكن الجامعات التكنولوجية وإتاحة التعليم العالى أمام خريجى المدارس الفنية سيقضى على النظرة أو الصورة السلبية لخريجى المدارس الفنية.