محمد فودة يتذكر أجمل لحظات العمر.. ويكتب: حينما وقفت على "جبل عرفات".. وصليت بـ "الروضة الشريفة"
◄ذابت كل همومى فى غمضة عين.. وتأكدت أن الدنيا لا تساوى شيئًا
◄من يعرف حلاوة التقرب إلى الله ويتزود بالتقوى يعز عليه أن ينظر إلى الخلف مرة أخرى
◄أتمنى أن نستثمر روحانيات هذه الأيام المباركة ونمد جسور المحبة بيننا دون أى غرض دنيوى أو مصلحة شخصية
◄لم يحالفنى الحظ هذا العام بأن أكون بين "الحُجّاج".. لكنى مازلت أعيش على نور رحلتى الايمانية الى بيت الله الحرام
كنت ومازلت على قناعة تامة بأن الأيام العشرة الأولى من شهر ذى الحجة والاحتفال بعيد الأضحى المبارك، رحلة إيمانية وروحانية تساعدنى دائمًا على الخروج من حالة الضيق التى نحياها فى ظل عالمنا الذى يموج بالحروب والصراعات حيث تتبدل حياتنا من حال إلى حال لتشكل بداخل كل منا مشاعر فياضة، نحن أحوج ما نكون إليها الآن وسط هذا الكم الهائل من الهموم والمشاكل، إنها مناسبة تفوح بعبق الحب الإلهى، لا يجب أن تمر أمامنا مرور الكرام، دون أن نقول لبعضنا بعضًا كلمة طيبة، فالكلمة الطيبة تصنع المعجزات، بل علينا أن نجعل منها نقطة انطلاق حقيقية لتنقية القلوب والتخلص من منغصات الحياة التى - للأسف الشديد - تحولت إلى شبح يهدد استقرارنا الوجدانى نتيجة طغيان لغة المصالح وتفشى الآثام، والبعد عن تعاليم الدين السمحة التى تحض على المحبة والود وسمو المشاعر والأحاسيس من أجل العيش فى سلام وسكينة وراحة بال.
أكتب الآن وأنا لم يحالفنى الحظ هذا العام بأن أكون من بين زوار بيت الله الحرام وعلى الرغم من ذلك، مازلت أتذكر تلك الرحلة الإيمانية التى قمتُ بها من قبل عدة مرات عندما ذهبت لأداء فريضة الحج، فما إن وقفت على جبل عرفات فى مشهد مهيب لم ولن يتكرر فى أى مكان فى العالم، حتى وجدتنى وقد انهارت الدموع من عينىّ وانتقلت من حال إلى حال ورأيت الدنيا بكل ما فيها لا تساوى شيئًا، ووجدتنى دون أن أدرى متسامحًا مع كل من هم حولى حتى من أعرف جيدًا أنهم يناصبوننى العداء، نعم لقد أصبحت فى ثوانٍ معدودة متسامحًا مع الآخرين متصالحًا مع نفسى، وكيف لا يكون الوضع على هذا النحو من الهيبة والإحساس بالتقوى والورع وأنا أقف فوق بقعة من أطهر بقاع الأرض هى جبل عرفات الذى تتجلى فيه رحمة الله عز وجل لعباده، فأصبح الدعاء مستجابًا فى هذا المكان حيث لا يوجد حجاب بين العبد والخالق، ومهما حاولتُ وصف ما عشته فى تلك اللحظات فإننى لا أستطيع أن أصف مدى شعورى وأنا أقف على جبل عرفات ففى لحظات سريعة ذابت كل همومى وفاضت عيونى بدموع لم أرَ مثيلًا لها من قبل، خاصة وأنا أرفع أكف الضراعة إلى الله على قمة هذا الجبل الذى قال عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «الحج عرفة»، وذلك فى إشارة واضحة لقيمة ومكانة وقدسية هذا الجبل المبارك.
وأعتقد أننى مهما قلت ومهما كتبت عن هذه الأجواء فإنه لا يمكن بأى حال من الأحوال أن أصف تلك الحالة الروحانية التى غمرتنى فى هذه الأثناء حيث لم أستطع أن أتمالك نفسى حينما شعرت بهذه القشعريرة التى سرت بين ضلوعى، فشعرت بأن جسدى يغوص بالكامل دون أن أدرى فى بئر عميقة مليئة بحالة من الوجد ومن الذوبان فى العشق الإلهى. والحق يقال فإن هذا الشعور لا يمكن نسيانه ولا أن يغيب عن الذاكرة مهما طال الزمن ومهما تعاقبت الشهور ومهما مرت السنون ومهما كانت طبيعة الشخص ومهما كان يتمتع بقوة التحمل، إلا أنه فى تلك اللحظات تتبخر الأحقاد وتختفى، كأنها لم تكن موجودة أصلًا وتتلاشى الخلافات وتصبح هى والعدم سواء، وتذوب المطالب الدنيوية وكأنها مجرد فقاعات هواء لم تدُم سوى بضع ثوانٍ قليلة، ليحل محلها إحساس لا يعادله أى إحساس فى الدنيا، حيث تتولد داخل القلوب النقية والصافية رغبة أكيدة فى التقرب إلى الله بشكل حقيقى والتزود بالتقوى والورع والصفاء والنقاء وكلها صفات ربما تكون فى ظاهرها بسيطة وسهلة المنال، إلا أنها أمور لا يمكن أن يصل إليها أى شخص بسهولة، حيث تتطلب استعدادًا نفسيًا وتحضيرًا ذهنيًا من نوع خاص كما تتطلب أيضًا استعدادًا وجدانيًا لا يمكن الوصول إليه بسهولة إلا بترويض النفس وكبح جماح المشاعر، خاصة غير السوية التى تدفع البشر فى كثير من الأحيان نحو ارتكاب أفعال وتصرفات بعيدة تمامًا عن تعاليم الدين الإسلامى السمح.
لقد عايشت تلك المشاعر النقية حينما كنت أصلى فى الروضة الشريفة فى المسجد النبوى الشريف إلى جوار قبر الرسول الكريم وعايشتها أيضًا وأنا أقف على جبل عرفات. ففى لحظات تذكرت كل ما عشته من قبل من محن وأحزان وأفراح وأزمات لا حصر لها، وكأننى أشاهد شريطًا سينمائيًا يوثّق كل شىء بدقة متناهية، وتذكرت أيضًا كيف أن الله عز وجل كان هو المعين والسند فى كل ما مررت به من أزمات، فضلًا عن دعوات والدتى رحمها الله، التى كانت خير معين لى بدعواتها التى لا تزال تعيش معى فى كل خطوة أخطوها وربما يتصور البعض أن القيام بفريضة الحج مجرد شعائر دينية تتم وفق مراحل مرتبة واحدة تلو الأخرى، تبدأ بالخروج من البيت بنية الحج، ثم الإحرام والطواف حول الكعبة والسعى بين الصفا والمروة، والتوجه إلى منى والوقوف على جبل عرفات، ثم إلى مزدلفة ثم الذهاب إلى منى ورمى الجمرات "جمرة العقبة" إلى آخر تلك المراحل.
لكن والحق يقال فإن كل تلك المراحل التى يمر بها الحاج وإن كانت تمثل بالفعل "الحج الصحيح" إلا أنها قد تذهب هباءً إن لم يكن هناك وازع قوى بداخله يدفعه إلى ترك أمور الدنيا والتفرغ بكل جوارحه للتقرب إلى الله عز وجل، وفتح صفحة جديدة مع الخالق ربما على إثرها يعود إلى حيث أتى وهو كما ولدته أمه، طالما اجتنبت الكبائر ومبطلات الحج. ولقد كانت رحلة الحج ولا تزال تمثل بالنسبة لى حالة خاصة من المصارحة مع النفس، حيث أشعر وكأننى أتخلص من الذنوب ومن الخطايا فى غمضة عين فتحولت وبقدرة قادر إلى شخص آخر لا يحمل لأحد أى حقد أو كره أو شماتة لأن من عرف حلاوة التطهر وحلاوة التقرب إلى الله يعز عليه أن ينظر مرة أخرى إلى الخلف حتى لا يلوث قلبه بالضغائن والبغضاء والكره، ولا بتلك التصرفات التى تلقى بالمرء فى بئر الحقد والغل والكراهية، فتفسد قلبه الذى يكون قد وهبه الخالق القدرة على أن يغتسل بطهارة الإيمان وببركة ماء زمزم، هذه البئر المليئة بالأسرار الكونية، التى لم يتم الكشف منها إلا أقل القليل. فماء زمزم لديه القدرة والقوة لأن ينظف الأفئدة ويجعلها ناصعة بيضاء من أى سوء، فقد وصفه الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، بقوله: "ماء زمزم لما شرب له"، وذلك فى دلالة واضحة وإشارة صريحة إلى أن هناك أسرارًا لا تزال مجهولة ولا يعلمها إلا الله عز وجل، فماء زمزم يشفى من الأمراض ويفرج عن النفس الضيق والحزن، ويبث فى نفس كل من يشربه طاقة إيجابية تدفعه لأن يكون إنسانًا مختلفًا فى كل شىء. ليتنا نستثمر هذه الأيام المباركة وما بها من روحانيات تسيطر على العقول وتملأ القلوب العامرة بذكر الله، ونجعلها نقطة انطلاق حقيقية نحو عالم نظيف نمد فيه جسور المحبة فيما بيننا، محبة حقيقية وخالصة لوجه الله منزهة عن أى غرض دنيوى أو مصلحة شخصية، وليتنا نرفع أكف الضراعة سائلين المولى عز وجل، أن يعيد علينا هذه الأيام المباركة ونحن فى أفضل حال وأن يجعل أيامنا كلها أعيادا ومناسبات مبهجة وكل عام ونحن جميعًا بخير ووطننا الغالى فى أمن واستقرار ورخاء.