لقد أصبح الخطاب الثقافى والسياسى محملًا بكثير من التأكيدات حول أهمية بناء الإنسان، ولقد تناولت هذه القضية من قبل فى هذا المكان، حيث لفت الانتباه إلى قدم هذا النوع من الخطاب، وإلى أهمية تناول السياق بأشكاله المختلفة ونحن نتحدث عن بناء الإنسان. واستمرارًا لنفس النقاش حول الموضوع، فإننى سوف أسوق فى هذا المقال حديثًا عن أهمية التعليم فى بناء الإنسان. ولكن يجب أن نتفق أولًا على ما نعنيه بعبارة بناء الإنسان، وقد لا نختلف على ذلك كثيرًا، فبناء الإنسان يعنى بناء المواطن الصالح القادر على الاندماج والمشاركة الاجتماعية الفعالة، والمحافظة على النسيج الاجتماعى للمجتمع عبر قدرته على تحمل المسئولية الاجتماعية والثقافية، وهى عملية تبدأ بالإرادة السياسية القوية، والتنمية الاقتصادية التى توفر للإنسان فرص العمل والحياة الكريمة، والتعليم المتميز الموجه نحو بناء المواطنة، والثقافة المدنية الحديثة الداعمة والمساندة.
يعنى ذلك أن التعليم يقع فى صلب هذه المنظومة، بل إنه يشكل العمود الفقرى لها، لأنه مع السياسات الثقافية - هو الذى يبنى العقل والوجدان، وهو الذى يسهم فى تأسيس المواطنين منذ نعومة أظافرهم وحتى تخرجهم فى الجامعة وانطلاقهم إلى حياتهم المهنية والعامة. ولقد آثرت أن أذكر كلمة المواطن أكثر من مرة فى هذا السياق، وذلك لأن إسهام التعليم فى بناء الإنسان يجب أن يرتبط ببناء المواطن بكل أبعاده المعرفية والعقلية والوجدانية، فلم يعد التعليم أداة لاكتساب المعرفة، أو لتركيم المعلومات فى أذهان الطلاب ليجتروها من أجل دخول الامتحان، ثم يبخروها من عقولهم بعد أن ينصرفوا عنه. وعوضًا عن ذلك فإن التعليم هو أقوى أداة لبناء المواطن الصالح النشط، القادر على التفاعل الخلاق مع مجتمعه، وعلى أن يحقق أعلى مستويات الجودة فى أدائه المهنى.
وفى هذا السياق فقد اتجهت كثير من الحكومات إلى تبنى مفهوم «التعليم من أجل المواطنة» أو مفهوم «التعليم المدنى» بديلًا عن المفهوم القديم للتعليم على أنه أداة للحصول على معارف ومهارات لممارسة مهن معينة. وفى ضوء ذلك تتحدد وظائف التعليم فى بناء الإنسان، التى يمكن أن نحصر منها خمس وظائف مهمة، تتوجه الوظيفة الأولى نحو تكوين البناء المعرفى والمهارى لأجيال المستقبل، وذلك عبر المساهمة الفعالة فى بناء مجتمع المعرفة الذى يتميز بالقدرة على إنتاج المعرفة وإتاحتها للمواطنين، واستخدامها لتحسين أحوالهم المعيشية والثقافية. فهذا المجتمع لا يمكن أن تقوم له قائمة دون مواطنين لديهم القدرة على امتلاك المعلومات، وإنتاج المعرفة، وامتلاك المهارات اللازمة التى تمكن من نقل المعرفة وتداولها وتسويقها لتصبح مصدرًا للقيمة المضافة فى المجتمع. وترتبط الوظيفة الثانية ببناء أطر للإبداع والابتكار والتفكير الخلاق، حيث يعتبر الإبداع والابتكار ركيزتين أساسيتين فى بناء الإنسان العصرى القادر على التفاعل الخلاق مع المعطيات العالمية المتغيرة، والقادر أيضًا على أن يسهم بنصيب كبير فى تطوير المعارف وفى إحداث نقلات نوعية فيها، وتتجه الوظيفة الثالثة للتعليم إلى تكوين البناء القيمى والأخلاقى للمواطنين، الذى يتحقق لا من خلال محتوى بعض المناهج، بل من خلال وجود نموذج تعليمى متكامل يقدم فيه أصحاب الرسالة التعليمية أجود السلوك وأفضله، وأجود الممارسات التعليمية وأفضلها، ويقدم فيه مستقبلو الرسالة التعليمية من الصغار والشباب أجود السلوك فى تحصيل العلم، وأجود الممارسات فى احترام المنظومة التعليمية ورجالها، مع وجود ثقافة مجتمعية داعمة لهذه الأساليب السلوكية التى يبنى عليها النموذج التعليمى. ويجب أن يعمل هذا النموذج على إيجاد بنية تعليمية قادرة على تنمية المهارات والعادات السلوكية من خلال علاقات منتورية يقوم فيها المدرسون والأساتذة بدور المحرك (أو المنتور) ويقوم فيها الطلاب بدور المتلقى النشط القادر على أن يعلم نفسه وأن يحرك الآخرين أيضًا نحو التعلم النشط. ولن يفلح هذا النموذج مهما يكون إلا إذا بثت فيه قيم الاحترام والصدق والانضباط والشعور بالمسئولية والإنصاف والجدارة والثقة، فنحن هنا بصدد نموذج مدنى حديث، ولا تستقيم المدنية إلا بقيم مدنية، ويؤدى بنا ذلك مباشرة إلى الوظيفة الرابعة المهمة للتعليم، وهى المساهمة فى بناء رأس المال الاجتماعى، أى القدرة على بناء شبكات للعلاقات الإيجابية النشطة، وحقن الثقة فى كل علاقات التفاعل والاتصال. ويؤدى ذلك إلى تدعيم المشاركة المجتمعية والاندماج الاجتماعى والثقافى، فى ضوء إيمان راسخ بالتعددية والحوار البناء، ومن شأن ذلك كله أن يعضد الوظيفة الأخيرة والأكثر أهمية وهى وظيفة التعليم فى محاربة الميول المتطرفة والحد من انتشارها. إن التعليم الحديث نظام مدنى يؤسس على قيم مدنية حديثة، ومن ثم فإنه يفترض أن يشكل عقلية حديثة ذات ميل مدنى اندماجى وتشاركى، عقلية لا تقبل التهميش والاستبعاد، ولا تقبل التطرف فى أى اتجاه، إنما هى عقلية تقف دائمًا فى موقف الوسط، حيث يكون العقل هو المحرك والعدل هو الفضيلة المثلى، ولا شك أن تحقيق هذه الوظائف الخمس للتعليم، ينتج إنسانًا مدنيًا حديثًا ومشاركًا خلاقًا ومواطنًا صالحًا، ولكن هذا النموذج يبقى نموذجًا مثاليًا، تصادفه فى الواقع عقبات كبيرة. ومن أهم هذه العقبات النمط الثقافى الشائع حول التعليم فى مجتمعنا، إن هذا النمط الثقافى لا يفهم التعليم على أنه مسئول مسئولية كبرى عن بناء المواطن، ولكن يفهمه على أنه وسيلة للحصول على شهادة. وأحسب أن كثيرًا من الانكسارات فى العملية التعليمية ناتجة عن سيادة هذه الثقافة ذات الأبعاد النفعية والأنانية، إنها ثقافة تحذف المجتمع والثقافة حذفًا من معادلة التعليم، وتدفع بالتعليم إلى المساهمة فى بناء الغرائز أكثر من بناء العقل، والمساهمة فى بناء المصالح النفعية الضيقة أكثر من بناء المصلحة العامة. ولا شك أن هذه الثقافة تشكل سياقًا معوقًا لتحقيق مساهمة فعالة للتعليم فى بناء الإنسان، ولذلك فإن العمل عليها، نقدًا وتفكيكًا وتغييرًا يعتبر مستلزمًا أساسيًا لفتح الآفاق أمام إسهامات تعليمية فى بناء الإنسان، وهى إسهامات لا تتحقق بدورها إلا فى إطار مؤسسات تعليمية (مدارس وجامعات) لديها القدرة على فهم الدور المنوط بها، ولديها القدرة أيضًا على تطوير نماذجها التربوية بحيث تصب فى النهاية فى الهدف الأكبر لبناء المواطن الصالح القادر على الاندماج والمشاركة، والمحافظة على النسيج الاجتماعى للمجتمع.
لا يمكن بأى حال من الأحوال أن تحقق البلاد النهضة المطلوبة بمعزل عن التعليم والصحة، وهذا ما تقوم به الدولة حاليًا، ولذلك أستغرب أشد الاستغراب من الذين يهاجمون أى تطوير للتعليم ويحاولون إفشال الرؤية الجديدة، وهؤلاء لا يعملون لصالح البلاد، وإنما يسعون فقط للحفاظ على مصالحهم الخاصة التى تحقق لهم ما يريدون من الأوضاع المتردية.