الجمعة 22 نوفمبر 2024
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

سامر رجب يكتب: السوشيال ميديا القوة الحاسمة في الحرب الروسية الأوكرانية

الشورى

قوة العتاد مهمة، وحداثة السلاح مؤثرة، واستعداد الجيش حيوي، وحنكة التكتيك خطيرة، والدعم الدولي مفصلي، والتأييد الداخلي أساسي، وطول النفس بديهي، والتمسك بالأمل من الأبجديات.

لكن حسم المعارك لم يعد رهين ما سبق فقط، وحرب روسيا في أوكرانيا تخبر الجميع أن انتظار المعركة الحاسمة المفصلية في تحديد مآل الحرب الدائرة هو انتظار واهم، كما تخبرنا أن البطولات المنتظرة في هذه الحرب ليست إلا ترجمة فعلية لنظريات النسبية، حيث لا طبول الحرب تضمن النصر، أو أبواقها تحتفي بالمنتصر أو تهجو المنهزم.

التاريخ الشعبي

"التاريخ الشعبي ما زال يكتب بأسلوب الطبول والأبواق مع صور حية للقتال المنفصل عن الخدمات اللوجيستية الصعبة والمعاناة اليومية المعاشة، والبعيد عن النظرة المتأنية المتعمقة في المجتمعات المتحاربة والثقافات التي أنتجت جيوشاً كبرى، وأرسلتها للقتال في أماكن بعيدة من أجل أسباب ربما لا يعرف الجندي المقاتل العادي عنها شيئاً". هذا ما يخبرنا به أستاذ التاريخ العسكري في جامعة بوسطن الأميركية كاذال نولان في كتابه "جاذبية المعركة: تاريخ لكيفية كسب الحروب وخسارتها" (2017).

ويضيف، "الإعلام والوسائط المرئية تلعب على الأوتار التي يريد المتلقي أن يراها الشجاعة البدائية، والأيام الحمراء (الدموية)، والتشويق عبر التلويح بالعنف الذي يمارسه البعض بالوكالة أي نيابة عن الغير. هناك بطولة في المعركة بالطبع، لكن لا يوجد عباقرة في الحرب، الحرب معقدة للغاية بحيث يتعذر على العبقرية السيطرة عليها، والقول بغير ذلك أشبه بعبادة الأريكة التي يجلس عليها ليدلي بنظرياته عن المعارك والشجاعة والتضحية".

عن المعارك والشجاعة والتضحية وانتظار المعركة الدموية الحاسمة التي ستحدث "حتماً" لإعلان المنتصر القوي الشجاع المضحي الصنديد وإشهار المنهزم الضعيف المتخاذل الرعديد يتحدث الجميع، لكن الحديث يرتكز على عومل تختلف عن تلك التي يدرسها نولان أستاذ التاريخ العسكري، أو تلك التي تنتجها مصانع الدبابات والمدرعات والمجنزرات أو المسيرات أو حتى قواعد بروباغندا الحرب وتسويق معاركها.

ليست رتل دبابات

حرب روسيا ومعاركها المتعددة في أوكرانيا تؤكد كل يوم على مدار أكثر من ثمانية أشهر أن الحرب لم تعد رتل دبابات وقوة عزيمة وإيمان ودهاء تخطيط، بل يقف مقاتلو الـ "سوشيال ميديا" وأدواتها الهجومية وأساليبها التكتيكية ومخططاتها الدفاعية عوامل مهمة، وربما تكون الأهم في حسم نتيجة الحرب.

الحرب الدائرة على أثير الـ"سوشيال ميديا" بين فريقي روسيا وأوكرانيا، وخلف كل منهما دول ومال وعتاد ومصالح وتوازنات وأمم وقبائل تشجع هذا ضد ذاك لأسباب تتراوح بين الإنسانية والنكاية والحبكة العنكبوتية المطلوبة على منصات التواصل الاجتماعي.

لا يكاد يمر خبر عن المعارك الدائرة في أوكرانيا دون إشارة كبيرة أو صغيرة إلى ما ذكرته منصات التواصل الاجتماعية من التفاصيل، وسواء تعلق الأمر بهجوم روسي، أو دفاع أوكراني، أو قتلى سقطوا، أو أشخاص نزحوا، أو مسيرات ظهرت، أو تعبئة جزئية أُعلِنت أو رئيس نزل الشارع، وآخر ظهر في كرنفال، وثالث توعد الدولة المعتدية، ورابع أيد الشعب المعتدى عليه أو غيرها، يظل ما ذكرته الـ "سوشيال ميديا" مكوناً رئيساً في الخبر.

حسم النتائج

لكن دور الـ "سوشيال ميديا" في هذه الحرب العجيبة لا يتوقف عند تحولها إلى مصدر إضافي للأخبار ومنبع ثري للتفاصيل (بعيداً من مسألة المصداقية والتحقق من الأخبار الكاذبة التي ربما تعنى بالتحقق منها مؤسسات إعلامية رسمية قبل النشر)، لكن في ترسيخ أقدامها كعامل من عوامل تحديد النتيجة النهائية للصراع الدائر.

الصراعات والقلاقل الحديثة الدائرة أو تلك التي انتهت على مدار العقد الماضي تحوي عاملاً مشتركاً ألا وهو المنصات الرقمية، لا سيما الـ "سوشال ميديا".

المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها "هيومان رايتس ووتش" وغيرها من الجماعات والجمعيات المعنية بالحقوق اعتبرت هذه المنصات وسيلة رئيسة لتوثيق ما سمته بـ"الفظائع" و"الانتهاكات" التي لا تصل إلى وسائل الإعلام التقليدية أو التي يجري منعها من الوصول لها.

أداة توثيق

منصات التواصل الاجتماعي كأداة لتوثيق "الانتهاكات" مسألة بالغة الأهمية، وإن بقيت المصداقية والاجتزاء والفبركة مثار شد وجذب في هذا الصدد، لكن حرب روسيا في أوكرانيا نقلت استخدامات الـ"سوشيال ميديا" لمرحلة مختلفة تماماً عن كل ما سبقها على مدار عقد من الصراعات والتوترات والقلاقل.

يمكن القول إن هذه الحرب هي أول حرب شاملة على وسائل التواصل الاجتماعي، هي أول حرب عنكبوتية تسير بالتوازي مع المعارك الدائرة على الأرض، وربما تسبقها بخطوتين أو ثلاث، رؤساء وحكومات وشعوب وكيانات خاصة ورسمية وأفراد وخبراء رقميون ومستثمرون وجنود حقيقيون وجنود افتراضيون وأجهزة استخبارات وغيرهم يتواجد جميعهم على أثير المنصات على مدار الـ 24 ساعة لإدارة خيوط المعركة وخطوطها، ومن ثم تحديد ما ستؤول إليه الأوضاع، والنتائج بالتعاون مع أو بمنأى عن مجريات الأرض.

حرب شاملة على المنصات

الباحث في "مركز ابتكار الحوكمة الدولية" الكندي دان سيوراك يقول في ورقة عنوانها "فنون حرب السوشيال ميديا يجري ابتكارها في أوكرانيا" (2022) إن "الحرب الروسية الأوكرانية دشنت أول حرب شاملة على وسائل التواصل الاجتماعي في التاريخ، هذه الحرب سلطت الضوء وأفسحت الطريق أمام شكل جديد من أشكال التحول الرقمي، ليصبح أداة حرب شديدة الفعالية. الأدوات التكنولوجية أصبحت صاحبة يد عليا في تحديد نتائج الحروب، وهي أدوات متاحة للجانبين".

ويرى سيوراك أن وسائل التواصل الاجتماعي "وفرت لأوكرانيا قنوات جديدة لنشر المعلومات الخاصة بمسائل الحرب وتفاصيلها، هذه القنوات تساعد في الحفاظ على البنيان النفسي والعاطفي الداخلي للمقاومة، كما تساعد في بناء الدعم الخارجي المطلوب لمجريات الحرب، كما أنها تُسهم في نهاية المطاف في تأريخ وتوثيق الروايات التاريخية التي ستدعم اتهامات جرائم الحرب كما هو متوقع".

أما استخدام روسيا منصات التواصل الاجتماعي أثناء حربها في أوكرانيا، بحسب سيوراك، فإن "الاستخدام الأهم سيكون لتعضيد حالة (ضباب الحرب) المطلوبة وتأجيج الشكوك حول ما يُرى ويُسمع، إذ يجري إنكار حدوثها لجمهور السوشال ميديا خارجياً وقمعها وتعقيمها داخلياً".

قمع ووقاية

لكن في الـ "سوشيال ميديا"، ما يعتبره طرف قمعاً وتعقيماً هو فصل الصالح عن الطالح، وحماية المصالح الوطنية ووقاية المواطنين من الكذب والأخبار المغلوطة، وما أكثرها في الحروب.

في الحرب الحالية، وفي خضم عدادات القصف والتقدم والتقهقر والقتلى والجرحى وأداء الجيش النظامي ودور المرتزقة (وفي أقوال أخرى المتطوعون) وإعلان الدول الكبرى المؤيدة لأوكرانيا إرسال مساعدات مالية إضافية، أو صواريخ مضادة للطائرات، أو مدافع قيصر أو غيرها، وتأكيد الدول المؤيدة لروسيا عن دعم حقها في حماية حدودها، واستعادة حقوقها، واسترجاع الأراضي التي تعد امتداداً طبيعياً للثقافة الروسية تتكفل جيوش وأفراد حرب الـ"سوشال ميديا" بحرب الأثير وما يجري عليه.

صارت التغريدات والتدوينات والصور ومقاطع الفيديو التي تحمل نوعاً من التأييد والتعضيد لفريق ضد آخر أمراً شائعاً ومعروفاً، كما أصبحت المعلومات الخاطئة أو المضللة أو الملتوية أو المجتزأة عن قصد أو المفبركة معروفة ومتوقعة، حتى منصات التواصل الاجتماعي الممنوعة أو المحجوبة أو الرقابة المفروضة على المستخدمين فهي أيضاً باتت كلاسيكية.

أما المواجهات بين الأفراد، وبينهم دون شك من ينتمون إلى جهات أو مؤسسات، في كلا البلدين على أثير الـ "سوشيال ميديا" فقد وصلت مرحلة أقل ما يمكن أن توصف به هو الاحتدام الشديد والكيد العنيف.

كيد المستخدمين الأوكرانيين يضع أقرانهم أو غرماءهم الروس في خانة لا يحسدون عليها، وسواء كان الروس أقل تمكناً من الحس الإبداعي الساخر، أو أكثر خضوعاً للرقابة الرسمية الصارمة، فإن النتيجة واحدة، ترسانة الـ"ميمز" الأوكرانية وصلت إلى درجة من الحذاقة والمرارة ما دفع مراقبين إلى التنبؤ بأن حرب الـ"سوشال ميديا" محسومة بشكل شبه مؤكد لصالح أوكرانيا.

الميمز سلاح فعال

لكن ما يقال في إعلام الغرب عن نتائج الحرب يختلف عما يقال في غيره من وسائل الإعلام، وما يبدو فوزاً مبهراً على الأثير بينما رحى الحرب تدور على الأرض قد يكون إما استباقاً بغرض التأثير النفسي أو قراءة متسرعة تحكم على الأمور بمقاييس الأثير العنكبوتي.

المؤكد أن التغريدات والصور ومقاطع الفيديو وأخيراً "الميمز" الأوكرانية تعرف طريقها مباشرة إلى عقل وقلب ونشرة أخبار ودوائر صنع القرار في المعسكر الداعم أوكرانيا، الذي تحولت أغلب قطاعاته الشعبية إلى قاعدة داعمة لأوكرانيا لأسباب تتعلق بالتعاطف والإنسانية، إضافة بالطبع إلى العداء الكلاسيكي لكل ما هو روسي.

التفجير الذي وقع قبل أيام على جسر القرم في مضيق كيرتش فتح أبواب الميمز الأوكرانية على مصراعيها، كم الصور والرسوم والأفكار التهكمية الساخرة الفرحة بتدمير جزء من الجسر، إضافة إلى كم مذهل من الصور "السلفي" التي يلتقطها بعضهم ويحملونها على أثير المنصات موجهة إلى "الشعب الروسي الصديق".

"الشعب الروسي الصديق" في المقابل يجد نفسه واقعاً بين شقي رحى، فمن جهة، منصات التواصل الاجتماعي ومحتواها معرضة دائماً للرقابة ما يجعل المواطن الروسي "حريصاً" في استخداماته العنكبوتية، ومن جهة أخرى، فإن خبثاء يلوحون إلى أن الشعب الروسي ربما لا يتمتع بحس دعابة أو سخرية تمكنه من رد التهكم بتهكم.

مفعول السحر

سلاح السخرية والتهكم له مفعول السحر سياسياً وربما عسكرياً، ودخول الـ "سوشيال ميديا" على خط التهكم في الحرب الدائرة يقول الكثير عن أثر الإنترنت وتطبيقاته في الحروب.

 قبل أيام، وضعت "هيئة المراقبة المالية الفيدرالية" الروسية شركة "ميتا" (المالكة فيسبوك وإنستغرام) على قائمة المنظمات الإرهابية والمتطرفة. وكانت روسيا قد حظرت المنصتين في مارس (آذار) الماضي، سبب الحظر هو أن شركة "ميتا" كانت قد أعلنت أنها بصفة استثنائية ستسمح موقتاً للمتضررين من "الحرب المستمرة في أوكرانيا من التعبير عن مشاعرهم العنيفة تجاه القوات الروسية"، ومنها ما يدعو لـ"قتل الغزاة الروس".

القراران المتضادان يؤكدان أن الـ "سوشيال ميديا" لا تقل خطورة أو أهمية في المعركة عن الدبابات والمسيرات والطائرات، قرار "ميتا" السماح الاستثنائي بالتعبير عن المشاعر "العنيفة"، وقرار الحكومة الروسية وضع "ميتا" على قوائم المنظمات الإرهابية يدلان على أن منصات التواصل الاجتماعي سلاح محوري.

محورية سلاح الإنترنت ومنصاته الاجتماعية يعرفها جيداً الملياردير إيلون ماسك، بعد أقل من أسبوع من بدء تحرك روسيا في أوكرانيا، خرج ماسك ليعلن أن خدمة الإنترنت عبر قمره الصناعي "ستار لينك" المملوكة لشركته "سبايس إكس" جرى تفعيلها في أوكرانيا لمساعدة الأوكرانيين على مواجهة "الحرب".

وقال في تغريدة، "بدأ تشغيل خدمات ستار لينك في أوكرانيا، وهناك مزيد من المحطات في الطريق إليكم". وبالفعل ساعد توفير خدمة الإنترنت في أوكرانيا ليس فقط على قيام المواطنين بمهام "المواطن المراسل الحربي"، أو لتواصل الأسر والأقارب الذين فرقتهم الأحداث، لكن توفير الدعم اللازم للقوات الأوكرانية أثناء القتال، وكذلك لإعادة تشغيل ما تهدم من بُنى تحتية في عديد من المناطق التي تعرضت للقصف الروسي، إلا أن تكلفة هذه الخدمات تقدر بنحو 29 مليون دولار شهرياً.

ثقل الفواتير

يبدو أن ماسك استشعر ثقلاً ما، فأعلن قبل أيام أن شركته لن تتمكن من الاستمرار في تمويل تقديم خدمات الإنترنت لأوكرانيا إلى أجل غير مسمى، وهو ما أثار الذعر في أوكرانيا، وهذا متوقع، الجميع بات على يقين بأن الوجود على منصات التواصل الاجتماعي عامل مؤثر في نتيجة الحرب.

اللافت أن الثقل الذي استشعره ماسك لم يكن مادياً على رغم فداحة فاتورة الـ 80 مليون دولار التي دفعها، بل أراد أن يلقن المسؤولون الروس درساً، فقد أثارت تغريدة اقترح فيها حلاً للحرب عبر استبيان يحمل مقترحات منها اعتراف أوكرانيا بأن شبه جزيرة القرم جزء من روسيا، وكذلك إعادة الانتخابات في المناطق التي ضمتها روسيا على أن تكون الإعادة تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما أثار غضب الرئيس الأوكراني زيلينسكي.

زيلينسكي اتبع مبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء" فرد على استبيان ماسك عبر "تويتر" باستبيان آخر، غرد زيلينسكي، "أي إيلون ماسك تفضل: الذي يدعم أوكرانيا؟ أم الذي يدعم روسيا؟"

وظلت التراشقات العنكبوتية تتطاير في الأجواء على مدار الساعات الماضية إلى أن هدأت الأجواء بإعلان ماسك أنه سيستمر في تمويل خدمة الإنترنت لأوكرانيا مجاناً، على رغم تكبده أموالاً فادحة في الوقت الذي تحصل فيه شركات أخرى على مليارات الدولارات من دافعي الضرائب حسب تغريدته.

وتستمر التغريدات في القصف والقصف المضاد، والتدوينات في التنظير والتحليل، ومقاطع الفيديو في الدفاع والهجوم، والميمز في التهكم والسخرية وكبار رجال الدول في إشهار المواقف وإبداء الرأي على أثير الإنترنت، وباستخدام المنصات نفسها التي تعلن نفسها في مكانة متساوية وأسلحة الحرب التقليدية القادرة على إحداث الدمار الشامل، وترجيح كفة فريق على حساب آخر.

تم نسخ الرابط