لعب المثقفون والثقافة المصرية دورًا هامًا فى أدوار السياسة المصرية منذ مطالع عمليات بناء الدولة الحديثة على عهدى محمد على وإبراهيم باشا وما بعدهما، من حيث دور المثقف شبه الحداثى ابن البعثات التعليمية فى أوروبا، فى بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وخاصة على عهد إسماعيل وما بعده، على نحو ساهم فى تأسيس وضعية خاصة، تختلف عن دور المثقف النقدى من السلطات القائمة - السياسية والدينية والاجتماعية - حسب التقليد الثقافى التاريخى الفرنسى منذ قضية درايفوس ذائعة الصيت ودفاع "إميل زولا عنه".. إلخ. بعد ظهور المثقف فى فرنسا ودوره النقدى، تمثلت الخصوصية المصرية التاريخية فى لعب المثقف دوره فى بناء الدولة وأجهزتها وإدارتها، وفى ممارسة دوره النقدى للظواهر السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية السائدة، وهى خصوصية مصرية بامتياز.
إن إنتاج الأفكار الحداثية وتلقيحها بالموروث، كان جزءًا من عمليات أقلمة الأفكار والنظريات المستعارة وتطبيعها على الواقع الموضوعى من المهاد المرجعية الأوروبية والغربية، لمحاولة تمريرها داخل الأنسجة الاجتماعية والفكرية ذات المصادر التراثية الدينية، وعلى الرغم من بعض المناورات الفكرية، والأحرى الآليات اللغوية من داخل نظام اللغة التراثية والدينية، فإن مسارات هذه الإستراتيجيات اللغوية وصلت إلى مأزق فكرى وفلسفى وتاريخى، فى ظل نهاية المرحلة شبه الليبرالية، ثم مع تسلطية نظام يوليو 1952. إذا تجاوزنا هذا المأزق المعرفى والمنهجى، نستطيع أن نلمح أن الثقافة المصرية شبه الحداثية، ومثقفيها، كانت جزءًا أساسيًا من إمكانات التأثير المصرى فى المنطقة العربية، ومركزًا لاستقطاب العقول العربية اللامعة فى المرحلتين شبه الليبرالية، والناصرية حتى هزيمة يونيو 1967، بل امتد ذلك إلى العقول النقلية الدينية من خلال التعليم الأزهرى. وفى الأكليريكية فى المرحلة الناصرية، كانت الثقافة المصرية والمثقفون جزءًا أساسيًا من الدور المصرى فى الإقليم العربى، من خلال الإنتاج الثقافى الفكرى والنقدى، وفى مجال المسرح والسينما والفنون التشكيلية، والصحف والمجلات الثقافية والفنية، والكتب والترجمات عن اللغات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية أساسًا. ساهم هذا الدور الثقافى المصرى فى إضفاء بعض مصادر القوة داخل نظام السياسة الخارجية المصرية، وخاصة فى ظل بلورة النموذج الملهم فى التنمية والاستقلال الوطنى، والانفتاح على حركات التحرر الوطنى، وحركة عدم الانحياز ولاسيما فى الدول الإفريقية ودعم نزوعها للاستقلال وما بعد. لقد تسببت صدمة هزيمة يونيو 1967 المروعة فى طرح أسئلة كبرى على العقل النخبوى وبعض شرائح المجتمع من الفئات الوسطى حول أسباب الهزيمة وطرح بعضهم مسألة الهوية، والتخلف الحضارى، وهى أسئلة مستمرة وتفاقمت فى ظل حكم الرئيسين الأسبقين أنور السادات، وحسنى مبارك، وحتى فى أعقاب 25 يناير 2011، إلى حكم الإخوان المسلمين والسلفيين.. طيلة خمسين عامًا ويزيد، تراجع هذا الدور لاسيما فى ظل الانفتاح الاقتصادى، ثم الخصخصة وتبنى السياسات النيوليبرالية دون نظام ديمقراطى تمثيلى قوى مواكب لها، ينشط ويحفز العقل والضمير الحر إبداعيًا. ومن ثم تراجع الاهتمام والطلب السياسى والاجتماعى على الثقافة والمثقفين، خاصة فى العقد الأخير، وفقدت السياسة الخارجية المصرية أحد أبرز أدوات التأثير الإقليمى على دول المنطقة، منذ ظهور ثورة عوائد النفط، وبروز مراكز ثقافية جديدة، من خلال القوة المالية النفطية، وبروز مواقع للقوة الثقافية فى المنطقة المغاربية، لاسيما حول المغرب وتونس، وفى ظل ضعف أدوار لبنان وسوريا والعراق، حيث سطوة التوتاليتارية الصارمة على الثقافة والمثقفين.
انطلاقا مما سبق، نستطيع القول إن ثمة حاجة تاريخية، وموضوعية، لإحياء وإصلاح المؤسسات الثقافية المصرية، وذلك من أجل التكيف مع التحولات العميقة التى تتم فى إطار مراكز إنتاج الفكر والفنون العربية، على تعدد مجالاتها. من ناحية أخرى، من الضرورى استيعاب التغيرات الجديدة فى التقنيات الرقمية، وانعكاساتها على الإنتاج الثقافى، فضلا عن ضرورة الانفتاح الجدى على الثقافات الآسيوية والإفريقية واللاتينية وفى شمال العالم.
إن تجديد الحياة الثقافية يتطلب إصلاحات جذرية فى التعليم المدنى والدينى المتدهور، وضرورات التكامل بين الثقافة والتعليم فى كافة مراحله، وضرورة إصلاح جذرى للجامعات، لاسيما فى الجامعات الإقليمية والخاصة. كل المؤشرات تشير إلى ضرورة بروز طلب اجتماعى وسياسى حول الثقافة والمعرفة فى مواجهة قيم الثراء السريع والاستهلاك المفرط بلا عمل. الثقافة والتعليم هما الحل.