محمد فودة يكتب: رمضان.. شهر العبادة والروحانيات والذكريات الجميلة
الشهر الكريم يعيدنىدائماً لأحلى وأنقى أيام العمر
ابتهالات النقشبندى وأذان المغرب بصوت محمد رفعت "راحة" لقلوب الكبار والصغار
"الفانوس " و"الخيام " و"المسحراتى" مظاهر رمضانية تبعث البهجة فى قلوب الجميع
ليتنا نعيد إحياء العادات والتقاليد التىتمد جسور المحبة مع الجميع
أيام قليلة ويهل علينا شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة العربية والإسلامية بالخير والبركات، حيث نعيش الآن روحانيات شهر شعبان، وبطبيعتىفأنا دائما أتلهف لقدوم الشهر الكريم الذى أعيش فى أجوائه وتحت مظلته تلك الروحانيات التى تهب علينا بنسائم الحب والود والتراحم، فليتنا نتخذ من تلك الأيام المباركة التى باتت على الأبواب فرصة لأن نعيد إحياء أشياء كثيرة افتقدناها وسط زحمة الحياة..نعم ليتنا نتخذها فرصة لننظف قلوبنا من آثار تصرفات الحقد والكراهية التى للأسف الشديد أعمت القلوب وخلقت القسوة التىأصبحت تحل محل الطيبة والسماحة وراحة البال.
إن أيام شهر رمضان بالنسبة لى ليست أياما تمر وتعبر وليست أرقاما تسحب من أوراق شجرة الحياة، وإنما هى عمر من المحبة والود والتصالح، عمر من الصفاء يتخلل دمائى وأعصابى ويعيد ترتيب حياتى، لأرى الصالح أمامى هو اللون الغالب، وأرى الثمرة الجيدة تلمع بدفئها أمامى وتعطينى أملاً فى الغد، إنها أيام شهر رمضان المبارك التى تغسلنى فى كل عام، وتعيدنى طفلاً بريئاً نقياً، لقد كنت دائما وعلى المستوى الشخصى شديد الارتباط بتلك الأيام العطرة التى كانت بالنسبة لنا حينما كنا صغارا تبدأ بشكل مبكر وبالتحديد فى "ليلة الرؤية" التى كانت تتخذ أشكالاً متنوعة تختلف من مجتمع لآخر ومن بلد لآخر، خاصة أن أبرز ما يميز هذه الاحتفالات المتزامنة مع قدوم ليلة الرؤية هو تلك المظاهر الفولكلورية المستوحاة من العادات والتقاليد التى ظلت أحد أهم وأبرز ما يميز مجتمعنا الشرقى، فحينما كنا صغاراً فى مسقط رأسى بمدينة زفتى فى محافظة الغربية كانت تلك الليلة من أجمل ليالى العمر حيث أجواء البراءة والحب الحقيقى النقى والعلاقات الإنسانية الصافية التى لم تكن تعرف الزيف ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بلغة المصالح والتوازنات فكنا نعيشها بكامل تفاصيلها البريئة حتى مطلع الفجر نستمتع بأحلى لحظات العمر ونحن نقضيها فى استقبال الشهر الفضيل .
وحينما يتعلق الأمر بشهر رمضان فإنه من الطبيعى أن نعود بالذاكرةإلى تلك الأيام الحلوة والزمن الجميل، نعود إلى حيث أيام "مدفع رمضان" الذى حتى وإن كانت هناك أدوات ووسائل كثيرة ظهرت وأصبحنا نعرف من خلالها موعد أذان المغرب إلا أن فرحة سماع صوت المدفع كانت تصنع فى النفوس متعة خاصة جداً لا تقل عن متعتنا ونحن نستمع إلى تواشيح النقشبندى التى حفظناها عن ظهر قلب حينما كانت تذاع فى الراديو قبل موعد أذان المغرب بدقائق وكيف لا نحفظها وتخترق أفئدتنا وهى لا تزال بصوت النقشبندى تجعل من يسمعها تسرى فى جسده القشعريرة من شدة الخشوع ومن فرط الأداء المتقن الذى جعل هذا الصوت الملائكى لا يزال يعيش بيننا باعتباره أحد ملامح أيام وليالى رمضان جنباً إلى جنب مع "المسحراتى" الذى كان له فرحة تسعد الكبار والصغار، قبل أن يصبح الآن مجرد طقس فولكلورى بعد أن ارتبط بهذا الرجل الذى أصبح الآن يتجول فى المناطق الشعبية خوفا من الانقراض خاصة بعد أن تحول إلى مجرد عادة قديمة وهو ما ينطبق أيضاً على فانوس رمضان الذى على الرغم من التغيير الكبير الذى طرأ عليه وخاصة ظهور الفانوس الصينى فإن فانوس رمضان القديم التقليدى سيظل ذكرى مرتبطة برمضان وخاصة الفانوس القديم الذى أحببناه من قلوبنا، حينما كانوا يصنعونه من الزجاج الملون، ويتم إضاءته بالشمعة قبل طغيان اللمبات الحديثة، وأيضا قبل أن تشوهه الأغانى والأشكال المتحركة.
إننى أعترف بأن شهر رمضان المعظم بالنسبة لى بمثابة "كوكتيل" من المظاهر الإنسانية والروحانية المتشابكة والمتداخلة، فرمضان هو صلاة التراويح والخيام الرمضانية التى تنتشر فى كل مكان وتقدم من خلالها السهرات الغنائية والطرب الجميل واللحظات الحلوة، ورمضان بالنسبة للشعب المصرى هو الصيام كما يجب أن يكون والصلاة فىأوقاتها وتبادل الزيارات التى تحافظ على ما تبقى من علاقات اجتماعية كانت تميزنا عن سائر شعوب العالم، حيث تخلق تلك الزيارات المتبادلة حالة خاصة جداً حينما يتخللها تناول المأكولات التى ارتبطت بالشهر الكريم وخاصة الحلوى مثل الكنافة والقطايف والمشروبات الرمضانية الشهيرة مثل العرقسوس وقمر الدين والخروب والسوبيا.
ولعل هذه الأيام التى نعيشها الآن من أواخر شهر شعبان بمثابة كنز عطاء من الله سبحانه وتعالى، حيث تسمى أيام شهر شعبان بـ"النفحات"، حيث يقول حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: " إن لربكم فى أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها لعل أحدكم أن تدركه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً"، ولشهر شعبان فضائل كبرى فهو الشهر الثامن من شهور السنة الهجرية، حيث يأتى بعد شهر رجب وقبل رمضان، وكان شهر شعبان من أحب وأفضل الشهور عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصداقًا لما رُوى عن أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، أنها قالت: (كانَ أحبَّ الشُّهورِ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أن يَصومَهُ: شعبانُ، ثمَّ يصلُهُ برمضانَ)، وكان الصحابة، رضوان الله عنهم، يستعدون لاستقبال رمضان فى ذلك الشهر المبارك، ويتسابقون خلاله بالطاعات، فتجدهم يكثرون من الصدقات، وتدارُس القرآن الكريم وتلاوته، والصيام، مصداقًا لما روته لؤلؤة مولاة عمار بن ياسر، رضى الله عنها، أنّ عمارًا كان يتهيّأ لصوم شعبان كما يتهيّأ لصوم رمضان، وكانوا رضوان الله عنهم يعتنون بشهر شعبان اعتناءً خاصًا لِما علموا من كراماته ونفحاته، وقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غفلة الناس عن عِظم فضل شهر شعبان، وحثّهم على استغلاله بالعمل الصالح، حيث قال: (ذاك شهرٌ يغفَلُ النَّاسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ)، ومن أهم ما يميّز شهر شعبان رفع الأعمال فيه إلى رب العالمين، فبعد تسجيل أعمال العباد فى الصحائف، تُرفع أعمال النهار فى آخره قبل الليل، وتُرفع أعمال الليل فى آخره قبل النهار، وتُرفع أعمال الأسبوع فىيومى الاثنين والخميس، وتُرفع أعمال العام فى شهر شعبان، والأحاديث الواردة فى فضل شهر شعبان كثيرة ومنها: ما روته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، (كانَ أحبَّ الشُّهورِ إلى رسولِ اللَّهِصلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يصومَهُ شَعبانُ، بل كانَ يصلُهُ برَمضانَ)، وما روته أم المؤمنين عائشة: (كان رسولُ اللهِ يصومُ حتى نقولَ: لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأَيتُ رسولَ اللهِ استكمَلَ صيامَ شهرٍ قطُّ إلَّا رَمَضانَ، وما رأيتُه فى شهرٍ أكثرَ صيامًا منه فى شعبانَ، زاد: كان يصومُه إلَّا قليلًا، بل كان يصومُه كلَّه، كما أن هناك ليلة النصف من شعبان وهذه ليلة لها فضل عظيم، فقد خصّها الله -سبحانه وتعالى- بأن جعلها ليلةً يغفِرُ فيها لخلقه، وقد ورد ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (إنَّ اللَّهَ ليطَّلعُ فى ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشرِك أو مشاحنٍ) فيجب على المسلم أن يغتنم هذه الأيام المُباركة بالصيام والطاعة، وأن يصبر نفسه مع الذين يريدون وجه الله تعالى ويبغون فضله ويخافون عذابه.
اللهم ببركة هذه الأيام المباركة امنحنا القدرة على اقتناص تلك الفرصة لنستعيد البراءة والنقاء والصفاء النفسى، ونتكاتف على الخير والعطاء ويكون رمضاننا هو شهر محاسبة النفس ومراجعة ما فاتنا والدخول إلى عالم جديد، من الصفاء والشفافية.