محمد فودة يكتب من المدينة المنورة: "العمرة".. رحلة النفس والقلب إلى بيت الله
- عظمة الزمان والمكان تتجلى فى جوار الحبيب
- أشعر كأنى ولدت من جديد كلما زرت أرض المصطفى
- فى الروضة الشريفة شعرت بأنى أتنفس وأعيش وأسمع وأرى للمرة الأولى
- النظر إلى الكعبة المشرفة يمنح العين طاقة إيمانية تفوق الوصف
- فى المدينة المنورة أشعر بحالة من الوصل والاتصال تسمو فيها الروح ويتحول الإنسان من حالٍ إلى حال
وكأننى كنت على موعد مع الصفاء النفسى وراحة البال والسباحة فى بحر من المشاعر الفياضة والذوبان عشقًا فى حب الحبيب المصطفى، فما إن وقفت أمام المقصورة المشرفة بالمسجد النبوى الشريف حتى انتابنى هذا الإحساس الجارف الذى قد تعجز عن وصفه الكلمات، فعندما بلغت الروضة الشريفة شعرت بأن كل ما فى قلبى من حزن وهموم زال دفعة واحدة وكأنى أتنفس وأعيش وأسمع وأرى للمرة الأولى.
لقد شعرت بأننى بالفعل قد انتقلت إلى دنيا غير الدنيا ومن حالة إلى أخرى من الروحانيات التى نحن فى أشد الحاجة إليها الآن لنغتسل بمائها من زيف الحياة وطغيان المادة ولنستخدمها كطوق نجاة فى رحلة الإبحار فى محيط الحقيقة والحب الصافى والعشق الإلهى لسيدنا رسول الله، والحق يقال فإننى قرأت ما قرأت وعرفت ما عرفت، فما قرأت وما عرفت أفضل مما لمسته بنفسى وأنا أقف أمام الحبيب المصطفى، تصديقًا لقول العارفين وأصحاب الهمة: "من ذاق عرف".
وها أنا أكتب عما عشته من حالة استثنائية فى حياتى بعد أن ذقت حلاوة اللقاء وشربت من ماء المعرفة واستزدت من فضل المكان والمكانة فى ظل أجواء روحانية، وكيف لا يكون الأمر على هذا النحو من الروعة وأنا عندما أصلى فى الروضة الشريفة أنسى نفسى وأنسى الدنيا بهمومها ومتاعبها، وعندما أجد نفسى أمام الكعبة الشريفة التى اشتقت إليها كثيراً، أشعر بسعادة بالغة، فالنظر إلى الكعبة الشريفة يمنح العين طاقة إيمانية تفوق الوصف فهى أول لبنة وضعها الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يضع قواعد بيت الله الحرام، أما الطواف حول الكعبة فهو يمثل حالة خاصة جداً، حالة تفوق الوصف من فرط روعتها، حيث إن هذا الأمر يبعث فى نفسى شعوراً قوياً بالطمأنينة وراحة البال، ليس هذا فحسب بل إنه يأخذنى خارج حدود المكان والزمان لأجد نفسى دون أن أشعر أتخلص شيئاً فشيئاً من منغصات الحياة ومتاعبها وما بها من صغائر وتفاهات.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الشعور أثناء القيام بالطواف حول الكعبة بل إن الأمر امتد أيضاً إلى السعى بين الصفا والمروة وما يتخلله من لحظات روحانية يمتزج فيها السعى الهادئ بالهرولة بين الصفا والمروة، هذا المكان الذى تغمره الملائكة وتتنزل فيه نسمات اليقين بأن الله عز وجل لا ينسى عباده المتضرعين والموحدين والساعين من أجل إرضاء الله، فهذا الطواف وإن كان فيه بعض المشقة إلا أننى -والحق يقال- كلما سعيت بين الصفا والمروة شعرت بأن طاقة جسمى تزداد قوة ورغبة فى الاستمرار لاستكمال عدد مرات السعى بين الصفا والمروة وكأن هذا الجانب المهم فى مناسك العمرة بمثابة نقطة شحن الروح والبدن وكافة أعضاء الجسم.
وعلى الرغم من قيمة الصلاة فى بيت الله الحرام وعلى وجه الدقة أمام الكعبة المشرفة فإن زيارة المدينة المنورة يظل لها طعم مختلف فى نفسى، حيث الصلاة فى المسجد النبوى، ولن أكون مبالغاً حينما أقول إن زيارة المدينة المنورة تبدأ منذ لحظة الاقتراب من حدودها فكأن بيوتها تحتضن الزائر القادم إليها من كافة أنحاء العالم مشتاقاً للاقتراب من قبر سيد الخلق وأشرف المرسلين، ففى رحاب الحبيب بين الجوار والحوار تنطلق الأحاسيس والمشاعر ، تتجلى على الإنسان أصدق المعانى والجواهر حين تجتمع بركة الزمان بنفحات الأيام وبركة المكان فما أطيب المدينة المنورة التى فى ثراها أقدام الحبيب وفيها تتنزل الرحمات محفوفة بالتجليات.
إنها لحظة صفاء، وحالة من الوصل والاتصال تسمو فيها الروح وترتقى النفس ويتحول الإنسان من حالٍ إلى حال لدرجة أنه لو أقسم على الله لأبرّه، حيث تستجاب الدعوات وتجاب الطلبات وتتضاءل الأشياء مهما غلت وتصغر الأمور مهما علت ولَم يبق لك إلا جاه حبيبك المصطفى بين الجوار والحوار ليحدث الوصل والوصال بخالقك وبارئك ومقدرك فتخرق النواميس وتذوب الأحاسيس عشقا فى رسول الله وحبا فى مولاه.
فما إن دخلت المدينة المنورة حتى تملكنى إحساس خاص لا مثيل له ، إحساس بالاحتواء وكأن مدينة رسول الله تفتح ذراعيها لتحتوينى ، وعلى الرغم من أننى زرت من قبل المدينة المنورة عدة مرات فإننى فى كل مرة أشعر بنفس الشعور وينتابنى إحساس بأننى أزورها لأول مرة ، الطيبة تكسو وجوه أهل المدينة الأنقياء والسماحة عنوان لتعاملاتهم اليومية والنية الصافية والصادقة تحكم تصرفاتهم مع الزوار من عشاق الحبيب المصطفى، لذا فإن دخول المسجد النبوى يمثل حالة مختلفة تماما .. حالة تمتزج فيها الروحانيات بعبق الإيمان الذى يفوح من كافة أرجاء المسجد النبوى الشريف .. الأنوار المحمدية تطغى على أنوار الإضاءة العادية.. شيء ما يأخذك إلى عالم التقوى والورع ويسحبك بعيداً وكأنك تعيش مسحوراً بشيء ما لا تراه بالعين المجردة وإنما يخطفك بسحره وغموضه ليجعلك تعيش حالة روحانية لا مثيل لها.
وإذا كان الشعور على هذا النحو من الروعة فكيف يكون الأمر وأنا أقف بين قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنبره الطاهر ، فتلك هى الروضة الشريفة التى حدثنا عنها سيد الخلق بقوله: "بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة" وهو ما جعلنى أعيش أسعد لحظات عمرى وأنا أصلى فى هذا المكان ففى هذه اللحظات تخلصت من كافة المشاعر الدنيوية وشعرت بأننى أذوب عشقاً فى التعلق بأخلاق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، سائلاً المولى عز وجل أن يمنحنى من فيض كرمه وجود إحسانه الشعور بالرضا والإحساس بالطمأنينة واغتنام الفرصة لأتزود من زاد التقوى .
حقا كانت رحلة العمرة سهلة دافئة، بل كنت أحس أننى أطير من السمو النفسى والروحانى، كم كنت هادئ النفس وراضى السريرة، وأحس أننى برغم كل الزحام والجو أننى أعيش فى أرض أخرى وسماء أخرى، وحياة جديدة تنبض بالأمل فى غدٍ أفضل ملىء بالعبق الروحى، مازلت أستمتع بهذا الكيان الذى سكن جسدى، لأنى أحس أنه ترتيب إلهى وليس ترتيبا بشريا، لهذا رأيت نفسى تنتقل إلى دنيا أخرى غير تلك الدنيا التى أعرفها، زيارة غريبة غير كل مرة وغير كل الزيارات السريعة إلى المدينة المنورة أو أرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حقاً كانت هذه العمرة مميزة كأنها أول مرة بالنسبة لى، اغتسلت نفسى واغتسلت روحى واغتسل جسدى بهذا البريق الشفاف من الروحانية التى تملأ كل خلاياى، وتتمدد وتغير من كل ما بى، وترتقى بأحاسيسى وبنظرتى للناس بل لكل ما حولى.
وبعد أن عشت أياماً لن أنساها ما حييت فى رحلة العمرة، أياماً هى بالفعل أجمل وأصدق وأروع أيام العمر؛ فإننى أرفع أكف الضراعة إلى المولى عز وجل أن يتقبل منى زيارة بيته الحرام وأداء مناسك العمرة، وأن يمنحنى القدرة على التزود من بركات ونفحات الاقتراب من قبر الحبيب المصطفى فى المسجد النبوى الشريف.