"الحسد".. بوابة الشر
- كيف نحصِّن أنفسنا ونحمي المجتمع من مخاطر الانفلات الأخلاقي؟
- مواقع التواصل الاجتماعي.. "مصنع" للكراهية والغل والحسد وإفساد كل ما هو جميل
- الشعور بالنقص والغيرة بداية السقوط في "وحل" الحقد والحسد
- الحسد مرض العصر الذي يغتال القيم الأخلاقية على مرأى ومسمع من الجميع
الحسد من الظواهر النفسية المعقدة التي لطالما شغلت الإنسان عبر التاريخ، حيث تعددت المفاهيم والتصورات حول الحسد، فهل هو مرض نفسي ينبع من داخل النفس البشرية، أم هو قوة خفية تنتقل من شخص لآخر عبر النظرة الحاسدة؟ إن الدين قد حسم هذا الأمر بأن الحسد موجود ومذكور في القرآن الكريم وهو ما تشير إليه الآية الكريمة" " وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ "، ويرى علم النفس أن الحسد هو عبارة عن مشاعر سلبية تنشأ عندما يشعر الفرد بالغيرة والحقد تجاه شخص آخر يتمتع بميزة معينة يفتقر إليها، تلك الميزة قد تكون مادية مثل الثروة أو الجمال، أو معنوية مثل النجاح أو السعادة، يشعر الحاسد برغبة ملحة في الحصول على ما يملكه الآخر، أو على الأقل في حرمانه منه.
والحسد ليس مجرد شعور عابر، بل هو مرض نفسي معقد ينبع من أسباب عميقة، فالشعور بالنقص مقارنة بالآخرين، والخوف من الفشل، والتنشئة الاجتماعية القائمة على المقارنة والتنافس، كلها عوامل تساهم في نشوء الحسد، ولا يقتصر تأثير الحسد على الفرد نفسه، بل يتعداه ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ويضر بالمجتمع ككل، وللتغلب على الحسد، يجب علينا أن نعمل على تطوير أنفسنا، وأن نتقبل نجاح الآخرين، وأن نشكر الله على نعمه، كما يجب علينا أن نبني علاقات إيجابية مبنية على الاحترام المتبادل، وأن نلجأ إلى الله تعالى طلبًا للمساعدة.
وللحق فإن جميع الأديان تدين بالسلم والتسامح، وتعتبر الحسد من الكبائر التي تضر الفرد والمجتمع، وحثت الأديان على الشكر لله على جميع النعم التي يغرق فيها الإنسان، وحثت على التعاون والتكاتف بين الناس، فالحسد له آثار سلبية على الجميع ولكن يمكن علاجه والوقاية منه من خلال تربية النفس على القيم الأخلاقية، وتقوية الإيمان بالله، علينا جميعًا أن نسعى إلى بناء مجتمع خالٍ من الحسد والكراهية، مجتمع تسوده المحبة والتسامح.
وعلى الرغم من أن ظاهرة الحسد تعد من أقدم الظواهر النفسية التي عانى منها الإنسان عبر التاريخ، لكن مع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي،أخذت هذه الظاهرة أبعادًا جديدة وباتت أكثر تعقيدًا،فالسوشيال ميديا، التي صُممت لربط الناس وتقريب المسافات، أصبحت في الوقت نفسه أرضًا خصبة لنمو بذور الحسد والتنافس غير الصحي، حيث تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة مرآة تعكس حياة الآخرين بأبهى صورها، ويشارك الأفراد صورًا ومقاطع فيديو توثق لحظات سعادتهم وإنجازاتهم، وهذا العرض المستمر للحياة المثالية يخلق لدى الكثيرين شعورًا بالنقص والدونية، مما يزيد من فرص الشعور بالحسد.
واللافت للنظر أن وسائل التواصل الاجتماعي تساهم في تفاقم مشكلة الحسد من خلال عدة عوامل، منها: تعرض السوشيال ميديا المستخدمين لكم هائل من المحتوى الذي يركز على الإنجازات والنجاحات، مما يخلق ضغطًا نفسيًا على الأفراد ويدفعهم إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين، وأيضا تتيح السوشيال ميديا للمستخدمين الوصول إلى حياة الآخرين بسهولة، مما يزيد من فرص التعرض للمعلومات التي تثير مشاعر الحسد، كما أن الرغبة في الحصول على الإعجاب والتقدير على منصات التواصل الاجتماعي تدفع الكثيرين إلى التباهي بإنجازاتهم وممتلكاتهم، مما يزيد من الشعور بالغيرة والحسد لدى الآخرين، وإذا وقع الحسد على الإنسان حقاً فقد تكون هناك أعراض كالضيق، والفتور عن الطاعة، والقلق وغيرها، لكن قد يكون في الإنسان مرض فعلاً، فينبغي عليه مراجعة الأطبّاء والأخذ بالأسباب والعلاج، ولا يُوسوس نفسه دائماً بأن كل ما يصيبه هو من الحسد والعين، ويحرص على دعاء الله تعالى ويحافظ على أذكاره ويتوكّل على الله حق التوكل.
وحسبما يرى العلماء فإن هناك فروقا عديدة بين العين والحسد، فالفرق بينهما من حيث السبب الرئيسي أن العين تكون بسبب الإعجاب والاستحسان والاستعظام، بينما الحسد فسببه الحقد وتمنّي زوال النعم عن الغير والبغض، والحسد أعمّ من العين، فكلّ عائن حاسد وليس كل حاسد عائن، ولذلك نرى من إعجاز القرآن البياني في سورة الفلق الاستعاذة من الحاسد، فإذا استعاذ المؤمن من الحاسد فإنه يدخل في استعاذته العائن كذلك، ويشترك الحسد والعين في الأثر، بحيث إن الاثنين يسببان الضرر للمحسود والمعيون، أما المصدر فمختلف، حيث إن مصدر العين هو انقداح نظرة العين، وقد تصيب الجماد والمال والزرع وغيره مما لا يُحسد بالأصل، أما الحسد فمصدره استكثار النعم على عباد الله تعالى، وتحرّك القلب وتمنّي زوالها عنهم الأثر على النفس: قد يصيب الشخص ماله ونفسه بالعين، لكن لا يحسدها بالتأكيد، وقد تقع العين من الرجل الصالح، حيث من الممكن أن يعجب بالشيء ويستحسنه دون تمنّي إزالته وسلبه، أما الحسد فلا يقع إلا من نفس خبيثة وحاقدة، وعلاج العين والحسد ينبغي على من رأى شيئاً أعجبه أن يذكر الله -تعالى- فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، بارك الله، أو يدعو ويقول: اللهم بارك له، حتى يصرف عنه العين، إذ تقع العين على المعيون أحياناً بغير اختيار العائن، ومن السلامة أن يذكر الله دائماً عندما يرى نعم الله على غيره، وعلاج العين أن يطلب المعيون ممّن أصابه بالعين إذا عرفه أن يغتسل بالماء، وعليه أن يجيبه، فقد ورد في السنة النبوية أن سهل بن حنيف كان يغتسل، فرآه عامر بن ربيعة وأعجبه شدة بياض جلده، فقال: (واللهِ ما رأَيْتُ كاليومِ ولا جِلْدَ مخبَّأةٍ)، وما أن قال ذلك حتى غُشي على سهل، فجاء به الصحابة إلى رسول الله وقالوا له: "يا رسولَ اللهِ هل لك في سَهلِ بنِ حُنيفٍ لا يرفَعُ رأسَه؟"، فقال لهم رسول الله: (هل تتَّهِمونَ مِن أحدٍ؟)، فأجابوه بما قال عامر بن ربيعة، فدعاه الرسول وقال له: (علامَ يقتُلُ أحدُكم أخاه ألَا تُبرِّكُ؟)، ثم أمره بالاغتسال، فغسل عامر يديه ووجهه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في وعاء، ثم صُبّ على سهل، فقام ليس به شيء وأفضل ما يتوقّى به الناس هو التزام طاعة الله تعالى، والإكثار من ذكره، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وسؤال الله العافية، وخاصة الرقية الشرعية، قراءة سورة الفاتحة، فهي شافية بإذن الله تعالى، والمحافظة على قراءة آية الكرسي، المحافظة على قراءة قل هو الله أحد، والمعوّذتين، وتكرارهم.
وللحق فإنه كى نتجنب الآثار السلبية للحسد في عصر السوشيال ميديا، يجب علينا جميعًا أن نكون أكثر وعياً بهذه الظاهرة وأن نتخذ بعض الإجراءات الوقائية، ومن المهم أن نركز على حياتنا الخاصة وإنجازاتنا، وأن نتجنب المقارنة المستمرة لأنفسنا بالآخرين، كما يجب أن نكون حذرين من المحتوى الذي نشاهده على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن نختار متابعة الأشخاص الذين يلهموننا ويحفزوننا بشكل إيجابي، وأيضا يجب أن نزرع في أنفسنا القيم الإيجابية مثل التواضع والشكر، وأن نتذكر أن السعادة الحقيقية لا تكمن في مقارنة أنفسنا بالآخرين،بل في تحقيق الذات والرضا بما لدينا.