الأحد 23 فبراير 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

"مدينة الدواء".. خطوة نحو الاستقلال الصحي فى مصر

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- الاعتماد على الاستيراد في قطاع الدواء ليس خيارًا مستدامًا

- يجب اتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي مع تزايد السكان وارتفاع معدلات الاستهلاك

- تدشين مصانع على أعلى مستوى لضمان إنتاج دواء مصري بمعايير عالمية

- مركز متكامل للبحث والتطوير والتصنيع يهدف إلى وضع مصر على خريطة صناعة الدواء عالميًا

- وضع سياسات تضمن توفير الدواء في الأسواق بأسعار مناسبة وضخ كميات كبيرة منه

- نجاح صناعة الدواء يتطلب تضافر الجهود بين الحكومة والمصانع المحلية وشركات الأبحاث والجامعات

- مصر تمتلك كل المقومات التي تجعلها لاعبًا أساسيًا في سوق الدواء العالمي

عندما نتحدث عن صناعة الدواء، فنحن لا نتحدث عن مجرد قطاع اقتصادي يحقق أرباحًا أو يخدم السوق المحلي، بل نتحدث عن حق أصيل لكل مواطن، عن حياة الناس وصحتهم، عن الأمن القومي بكل أبعاده.

الدواء ليس سلعة تُباع وتشترى فحسب، بل هو الضمانة الحقيقية لكرامة الإنسان، وهو خط الدفاع الأول أمام أي أزمة صحية قد تضرب البلاد.

لذلك، فإن الحديث عن توطين صناعة الدواء في مصر ليس مجرد مشروع تنموي، بل هو معركة استقلال صحي تخوضها الدولة بكل قوة، مستهدفة بناء منظومة متكاملة تجعلنا قادرين على الاعتماد على أنفسنا، وتحررنا من تقلبات الأسواق الخارجية وتحكم الشركات العالمية.

لقد أدركت الدولة المصرية مبكرًا أن الاعتماد على الاستيراد في قطاع الدواء ليس خيارًا مستدامًا، خاصة في ظل الأزمات العالمية التي تسببت في نقص العديد من الأدوية في الأسواق المختلفة.

ومع تزايد السكان وارتفاع معدلات الاستهلاك، أصبح من الضروري اتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو ما انعكس في إستراتيجية متكاملة بدأتها الدولة على أكثر من مستوى، بدءًا من تأهيل الكوادر العلمية القادرة على قيادة هذا القطاع، مرورًا بإنشاء معامل بحثية متطورة، وصولًا إلى تدشين مصانع على أعلى مستوى لضمان إنتاج دواء مصري بمعايير عالمية.

في هذا السياق، لعبت الجامعات الحديثة دورًا محوريًا في إعداد أجيال جديدة من الصيادلة والعلماء القادرين على التعامل مع أحدث التقنيات في صناعة الدواء.

جامعة المنصورة الجديدة، على سبيل المثال، باتت نموذجًا يحتذى به في هذا المجال، حيث تم تجهيز معاملها بأحدث الأجهزة والأدوات التي تتيح للطلاب دراسة وتحليل المركبات الكيميائية المستخدمة في صناعة الأدوية، والتدريب على تطوير تركيبات جديدة قد تساهم في علاج الأمراض المزمنة والمستعصية.

ولم يعد الأمر مقتصرًا على التعليم النظري فحسب، بل أصبح التدريب العملي جزءًا أساسيًا من منظومة التعلم، مما يضمن أن الخريجين الجدد لديهم القدرة على المساهمة الفعلية في تطوير الصناعة بمجرد التحاقهم بسوق العمل.

لكن الدولة لم تتوقف عند حدود إعداد الكوادر البشرية فقط، بل سعت إلى توفير البيئة المناسبة التي تضمن الاستفادة القصوى من هذه العقول، وهو ما تجسد في مشروع مدينة الدواء المصرية العالمية، التي تمثل نقلة نوعية في هذا المجال.

هذه المدينة ليست مجرد مجمع صناعي لإنتاج الأدوية، بل هي مركز متكامل للبحث والتطوير والتصنيع، يهدف إلى وضع مصر على خريطة صناعة الدواء عالميًا، ويجعلها قادرة ليس فقط على تلبية احتياجات السوق المحلي، بل أيضًا على تصدير منتجاتها للأسواق الإقليمية والعالمية.

مدينة الدواء تمثل أحد المشروعات القومية الكبرى التي تعكس رؤية الدولة في التعامل مع قطاع الصحة كملف إستراتيجي، وليس مجرد قطاع خدمي.

فمن خلال هذه المدينة، يتم العمل على إنتاج الأدوية وفقًا لأعلى معايير الجودة، مع التركيز على تطوير أدوية جديدة يمكنها منافسة المنتجات العالمية.

والأهم من ذلك، أن هذه المدينة تعكس تحولًا مهمًا في فلسفة الدولة تجاه القطاع الصحي، حيث أصبح الهدف ليس فقط توفير الأدوية، ولكن أيضًا امتلاك القدرة على إنتاجها محليًا، والتحكم في أسعارها، وضمان توفرها لجميع المواطنين دون التعرض لمشكلات نقص الدواء التي كانت تحدث بين الحين والآخر نتيجة الاعتماد على الاستيراد.

من جانبها، لم تكتفِ وزارة الصحة بالإشراف على هذه المشروعات، بل عملت أيضًا على وضع سياسات تضمن توفير الدواء في الأسواق بأسعار مناسبة، وضخ كميات كبيرة منه لتجنب أي أزمات قد تحدث نتيجة نقص بعض الأصناف.

هذا الجهد لا يقتصر فقط على الجانب الإنتاجي، بل يشمل أيضًا الرقابة على الجودة، وضمان أن تكون الأدوية المنتجة في مصر مطابقة لأعلى المواصفات العالمية، مما يفتح الباب أمام تصديرها لأسواق جديدة، ويساهم في تعزيز مكانة مصر كقوة صاعدة في هذا المجال.

لكن القضية هنا ليست قضية إنتاج دواء فحسب، بل هي قضية استقلال وطني بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

فتاريخيًا، كانت الدول التي تمتلك القدرة على إنتاج احتياجاتها الدوائية هي الأكثر قدرة على الصمود في مواجهة الأزمات الصحية والاقتصادية.

فالدواء ليس مجرد منتج استهلاكي، بل هو عنصر أساسي من عناصر الأمن القومي، والتعامل معه يجب أن يكون بنفس المنطق الذي يتم التعامل به مع ملفات مثل الغذاء والطاقة، أي باعتباره ضرورة لا تحتمل التأجيل أو الاستيراد الدائم من الخارج.

لقد رأينا جميعًا كيف أن بعض الدول الكبرى عانت خلال جائحة كورونا بسبب نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، حتى إن بعض الحكومات اضطرت إلى اتخاذ قرارات بمنع تصدير الأدوية إلى الخارج لضمان توفرها لمواطنيها.

هذا المشهد كان بمثابة جرس إنذار جعل العديد من الدول تراجع سياساتها الدوائية، وتسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو ما فعلته مصر بالفعل من خلال إستراتيجية واضحة تستهدف إنتاج معظم احتياجاتها الدوائية محليًا، وتقليل الاعتماد على الواردات الخارجية.

لكن هذا المشروع الطموح لا يمكن أن ينجح بمعزل عن دعم القطاع الخاص والمجتمع العلمي، فنجاح صناعة الدواء يتطلب تضافر الجهود بين الحكومة والمصانع المحلية وشركات الأبحاث والجامعات، بحيث يتم العمل في منظومة واحدة متكاملة تحقق الأهداف المرجوة.

فصناعة الدواء ليست مجرد عملية تصنيع، بل هي عملية قائمة على البحث العلمي، والتطوير المستمر، والاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، وهو ما يتطلب تعاونًا بين جميع الأطراف لضمان تحقيق أفضل النتائج.

وفي هذا الإطار، يمكننا القول إن مصر تمتلك كل المقومات التي تجعلها لاعبًا أساسيًا في سوق الدواء العالمي، فلدينا العقول القادرة على الابتكار، والبنية التحتية التي تسمح بتطوير الصناعة، والسوق الكبير الذي يوفر قاعدة استهلاكية واسعة، بالإضافة إلى الإرادة السياسية التي تدرك أهمية هذا الملف وتسعى إلى دعمه بكل السبل الممكنة.

ختامًا، يمكنني القول إن مدينة الدواء ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي خطوة على طريق تحقيق الاستقلال الصحي، وضمان حياة كريمة لكل مواطن.

فحين يتمكن أي مريض في مصر من الحصول على دوائه دون عناء، حين لا يصبح الدواء سلعة يتحكم في سعرها وأهميتها السوق العالمي، حين نصل إلى نقطة الاكتفاء الذاتي ونصبح قادرين على تصدير الدواء بدلاً من استيراده، عندها فقط يمكننا القول إننا نجحنا في هذه المعركة.

وما يحدث اليوم هو بداية واعدة، وخطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تحتاج إلى المزيد من العمل والجهد والتكاتف حتى تكتمل الصورة وتتحقق الرؤية التي نسعى إليها جميعًا.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 401 الصادربتاريخ 20 فبراير 2025

 

تم نسخ الرابط