"التيك توكرز" و"البلوجرز".. فوضى الثراء السريع وإفساد الوعي

- منصات التفاهة والاستعراض الرخيص تصنع نجوما زائفين وتهدر القيم الأخلاقية
- جيل "التيك توك" الضائع.. كيف دمر المحتوى السطحي عقول الشباب؟
- مهرّجو السوشيال ميديا يسرقون وعي الأجيال ولا عزاء للمبادئ والذوق العام
- لسنا ضد التكنولوجيا بل ضد الانحدار.. ومعركة الوعي تبدأ باستعادة العقول
في عصر الرقمنة والتواصل الاجتماعي، نشأت فئة جديدة تتصدر المشهد تحت مسمى "التيك توكرز"، "اليوتيوبرز"، و"البلوجرز"، هم وجوه مألوفة للشباب والمراهقين، يطلون كل يوم عبر الشاشات الصغيرة، يتحدثون، يرقصون، يسخرون، يروّجون لأنفسهم، ويقدمون حياة مثالية مزعومة، ولكن ما خلف الكواليس لا يشير دائما للصورة البراقة التي تعرض، خلف تلك اللقطات السريعة، حيث يقبع واقع من التلاعب بالمفاهيم، وهدر للوعي، وتدمير تدريجي للذوق العام والقيم المجتمعية.
ولعل المعضلة الحقيقية لا تكمن في استخدام هذه الوسائل الجديدة للتواصل، بل في نوع المحتوى المقدم، وفلسفة الحياة التي تروج، فبدلا من أن تتحول هذه المنصات إلى أدوات تعليمية، أو نوافذ للإبداع الحقيقي، صارت بالنسبة للكثيرين مجرد مسرح مفتوح للتفاهة، والضحالة، والاستعراض الرخيص، أصبح النجاح يقاس بعدد المشاهدات، وليس بقيمة الرسالة، وبات المعيار هو "الترند"، لا الجودة، الظاهرة الأكثر خطورة أن هؤلاء المؤثرين باتوا قدوة لجيل بأكمله، شباب في مقتبل العمر، ما زالوا في طور التشكيل النفسي والفكري، يتخذون من تلك الشخصيات مراجع ومثلًا أعلى، يرون فيهم نموذج النجاح، ويطمحون لتقليدهم في كل شيء، حتى ولو كان على حساب الأخلاق والعقل والمنطق، والنتيجة جيل مشوش، يعيش صراعًا بين واقع هش، ومثال افتراضي خادع.
المفارقة المدهشة أنه على الجانب المادي، فقد تحول الكثير من هؤلاء المؤثرين إلى ما يشبه "ماكينات لجني الأموال"، يحصلون على مبالغ خيالية من الإعلانات، والرعايات، ومنصات البث، دون خضوع حقيقي للرقابة، أو التزام بضوابط ضريبية أو قانونية، يتنقلون بين المنتجات والترويج لها دون مرجعية أخلاقية، يبيعون ما يشاءون لمن يشاءون، المهم فقط هو المقابل، وتحولت ظاهرة البلوجرز على مواقع التواصل الاجتماعي بين ليلة وضحاها إلى ما يشبه الفيروس الذي ينمو وينتشر بسرعة فائقة دون أن يجد من يوقفه أو حتى يقلل من خطورته، بل إن الغالبية العظمى من مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت بالفعل سلاحا ذا حدين وهو ما نلمسه بوضوح في تلك الهجمة الشرسة والممنهجة التي تشنها على حياتنا وسائل التكنولوجيا بشكل شبه لحظي، وفي السنوات الأخيرة، انتشرت مهنة البلوجرز على السوشيال ميديا، وهي المهنة التي استقطبت العديد من رواد السوشيال الباحثين عن تقديم محتوى مقابل المشاهدات والإعلانات، وفي غضون أشهر عديدة تزايدت أعداد البلوجرز من الجنسين بشكل لافت للنظر، ولم يعد الأمر مقتصراً على فئة بعينها، كما أن هذه المهنة ليس لها عمر معين وتعتمد في المقام الأول على المحتوى الذي يقدم للمشاهدين، وبعد ذلك يتحول الأمر إلى مشاهدات تصل في بعض الأحيان للملايين وتعود بمبالغ خيالية على أصحابها من منصات السوشيال ميديا المختلفة، مثل يوتيوب وانستجرام وتيك توك وغيرها، وللأسف أغلب المحتوى المنشور والذي يقدمه من يسمى بالبلوجرز مشبوه ويفسد الذوق العام، وأكثر من صانع محتوى خضع لمحاكمات أخلاقية.
وبينما يغرق المجتمع في محتوى فارغ لا يحمل أي رسالة، يغيب الصوت العقلاني، وتخبو النماذج الإيجابية الحقيقية، لا يجد المعلم مكانا في هذا الزخم، ولا يحظى الكاتب بربع ما يحصل عليه "يوتيوبر" يكتفي بإعداد مقاطع "ترند" لا تتجاوز بضع ثوانٍ من الضحك أو الصراخ، والأخطر من كل هذا أن تلك الظاهرة بدأت تخلق انقساما واضحا في بنية المجتمع، هناك من يسعى للكسب السريع بأي وسيلة، وهناك من يتمسك بالاجتهاد والعمل والتدرج المنطقي في النجاح، والهوة بين الفريقين تزداد يومًا بعد يوم، لتخلق فجوة في القيم، وفي نظرة الجيل إلى مفاهيم مثل الجهد، الوقت، الإنجاز الحقيقي، ما نحتاجه الآن ليس مجرد تحذيرات عابرة من "خطر السوشيال ميديا"، بل إستراتيجية شاملة لإعادة بناء الوعي الرقمي، وفرض الرقابة الأخلاقية على المحتوى، لا نقصد هنا رقابة تكميم الأفواه، بل رقابة تفرّق بين ما يبني وما يهدم، بين ما يوجه وما يضلل، كما يجب أن تتحرك المؤسسات التعليمية والثقافية بجدية لاحتواء هذه الظاهرة، بتقديم بدائل حقيقية ذات مضمون غني، تواكب العصر دون أن تتخلى عن قيم الأصالة والمسؤولية، الإعلام كذلك يجب أن يعيد النظر في توجهاته، ويتوقف عن تلميع من لا يستحق، وتسليط الضوء على من صنع مجده من وهم.
وفي قلب هذه الفوضى الرقمية، تبرز الأسرة باعتبارها خط الدفاع الأول، وربما الأهم، في حماية الأبناء من السقوط في فخ المحتوى التافه والمضلل، فالأهل، وإن بدا تأثيرهم أضعف من سطوة الشاشات والمنصات، يملكون القدرة الأكبر على زرع القيم منذ النشأة، وتشكيل الوعي منذ المراحل المبكرة.
إن انشغال الوالدين، أو غياب الرقابة الحقيقية، أو حتى الإعجاب الخفي ببعض ما يقدمه هؤلاء المؤثرون، يجعل الأطفال والمراهقين يتربّون على مفاهيم مشوشة عن النجاح والمعنى الحقيقي للحياة، ليس المطلوب من الأسرة أن تحاصر أبناءها أو تمنعهم من استخدام الإنترنت، بل أن تبني علاقة واعية معهم، تتيح لهم حرية الاستخدام مع وجود مساحة دائمة للحوار والتقييم والمناقشة.
أن يكون هناك سؤال دائم: ماذا تشاهد؟ ولماذا؟ وما الذي استفدته؟ هذه الأسئلة البسيطة قد تكون بداية لتفكيك تأثير النموذج الوهمي الذي يقدمه كثير من صناع المحتوى، على الأهل أيضا أن يعوا أن القدوة تبدأ من المنزل، فإذا كان البيت يقدر العمل، ويحتفي بالعلم، ويكرّم الجهد، فإن الطفل سينشأ على احترام هذه القيم، ولن ينبهر بسهولة بصور مزيفة لمشاهير حصلوا على الشهرة بوسائل لا تمت للجهد أو الإبداع بصلة، وللحق تبقى المسؤولية جماعية من الأسرة إلى المدرسة، ومن الإعلام إلى الدولة، الجميع معني بحماية هذا الجيل من الانجراف خلف سراب الشهرة السريعة؛ لأن ما نخسره من وعي، لا يمكن استعادته بسهولة، وما يُبنى على وهم، لا يمكن أن يدوم، المعركة ليست سهلة، لكنها ليست خاسرة، فقط تحتاج إلى وعي، ومثابرة، وشجاعة في المواجهة، دون تهاون أو تواطؤ صامت.
وإحقاقا للحق لا بد من التوقف أمام حقيقة مفجعة وهي أننا لا نواجه مجرد فوضى في المحتوى، بل نعيش وسط انهيار تدريجي لمنظومة القيم والمبادئ التي لطالما شكلت ضمير المجتمع، لم تعد القدوة تُبنى على الاجتهاد أو العلم أو الموهبة، بل على عدد المشاهدات والإعجابات، مهما كانت الوسيلة وضيعة أو المضمون رخيصا لقد تحولت المنصات إلى مسارح للتفاهة، تمنح فيها البطولات لمن يصرخ أكثر، ويتعرى أكثر، ويستهين بالعقل أكثر، ووسط كل هذا الضجيج، يبدو أن الأهل، إما في حالة غياب، أو صمت، أو تواطؤ غير مباشر، فكيف نلوم أبناءنا على الانجراف، ونحن من تركنا لهم الساحة خالية من التوجيه والرعاية؟ كيف نطلب من المراهق أن يفرّق بين الصواب والخطأ، ونحن لم نعرفه أصلا بقيمة الخطأ ولا ميزان الصواب؟ إن مواجهة هذه الظاهرة ليست معركة ضد التكنولوجيا أو حرية التعبير، بل معركة من أجل استعادة العقل، وإعادة بناء الذوق العام، وصياغة خطاب ثقافي قادر على التنافس داخل ساحة مفتوحة، دون أن ينحدر إلى نفس درك الابتذال، نحن بحاجة إلى تربية أكثر جرأة، وتشريعات أكثر صرامة، لحماية مجتمعنا من الانجراف خلف وهم ساطع يخفي خلفه خواء أخلاقيا وفكريا، وعلينا أن نعرف أن الحضارات لا تنهار فجأة، بل تتآكل من الداخل بصمت، حين تترك العقول فريسة للفراغ، وتختطف القلوب على يد اللاوعي، وإذا كان الجيل الصاعد هو المرآة الحقيقية لمستقبل الوطن، فعلينا أن نسأل أنفسنا: ماذا يرى هذا الجيل في تلك المرآة؟ وهل سنقف متفرجين على صورته وهي تتحطم أمام عيوننا؟

- تيك توك
- سلاح
- مسرح
- عون
- الشباب
- محمد فودة يكتب
- مدرس
- الوعي
- المرأة
- الدول
- قانون
- يوم
- تنقل
- درة
- يوتيوبر
- التشكيل
- كرة
- إنستجرام
- عامل
- يوتيوب
- راب
- محمد فودة
- سوشيال ميديا
- مقالات الاعلامى محمد فودة
- منع
- التزام
- مدرسة
- السوشيال ميديا
- سقوط
- غرق
- أسرة
- منزل
- الاعلامى محمد فودة
- اجتماع
- عزاء
- شخص
- الكاتب
- مواقع التواصل
- اخبار محمد فودة
- النجاح
- البلوجرز
- نقل
- طفل
- داخل
- ملك