الجمعة 06 يونيو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

« لبيك اللهم لبيك» الحج.. أيام النفحات الربانية وموسم تطهير الأرواح

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- أصوات التكبير وروائح الأضحية.. حين تعيدني أجواء العيد إلى دفء الطفولة وحنين الذكريات

- العيد الحقيقي يقاس بصدق المشاعر ونُبل العطاء لا بمظاهر الاحتفال

- ليتنا نمنح قلوبنا عطلة من الأحقاد ونغسل أرواحنا بنقاء عرفات في لحظة صفاء تتسع للجميع

كل عام تطل علينا العشر الأوائل من شهر ذي الحجة كأنها نسائم من الجنة، محمّلة بفيض من الروحانيات والسكينة، هي أيام عظّمها الله، ورفع من شأنها، وخصّها بفضائل كثيرة لا تُمنح لغيرها من الأيام، حتى قال عنها العلماء إنها أعظم أيام الدنيا على الإطلاق.

وما إن نسمع تكبيرات الحجاج تملأ الأجواء: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى تشعر القلوب بارتجافة خفية، وترتفع الأرواح نحو السماء شوقًا إلى تلك البقاع الطاهرة، وكأن النداء لا يزال يتردد فينا منذ أول لحظة.

إن هذه الأيام ليست مجرد مناسبات دينية نمرّ بها بشكل اعتيادي، بل هي فرصة ذهبية لكل مؤمن كي يُعيد ترتيب أولوياته الروحية، ويُنقي قلبه من الغِلّ، ويصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس.

العشر الأوائل من ذي الحجة، ووقفة عرفات تحديدًا، تمثل لحظة فارقة في عمر المسلم؛ ففيها تتنزل الرحمات، وتُعتق الرقاب، وتُغفر الذنوب، ويعود العبد كما ولدته أمه.

وقفة عرفات ليست فقط لحظة تجمع ملايين الحجاج على صعيد واحد، بل هي ذروة المشهد الإيماني الأعظم في الإسلام، حيث تتجلى المساواة بين البشر، وتُختزل الدنيا كلها في دعاء خاشع، ودمعة صادقة، وقلوب تتضرع للغفار الرحيم.

من يقف هناك لا يعود كما كان، فالحج رحلة تطهير، وانعتاق من كل ما يعكر صفو النفس، أما عيد الأضحى، فهو عيد التضحية والإيثار، وعيد السلام النفسي، حين يتقرب العبد إلى الله بذبح الأضحية طاعةً واستسلامًا، كما فعل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ليصبح العيد رمزًا للتسليم والإيمان.

ورغم أن الكثيرين قد لا يكونون هذا العام بين ضيوف الرحمن، فإن بركات هذه الأيام ليست حكرًا على الحجاج، ففي كل صلاة، وفي كل دعاء، وفي كل عمل صالح، يمكن أن نرتقي وننهل من فيض هذه الأيام المباركة، هي فرصة للصفح، للمصالحة، لمداواة النفوس التي أرهقتها الحياة، ولكي نُعيد اكتشاف المعاني الجميلة التي قد نغفل عنها في زحمة الدنيا.

وللحق فقد تأخذ أيام العيد الكبير في نفسي طابعًا وجدانيًا خاصًا، فهي لا ترتبط فقط بطقوس دينية عظيمة، بل ترتبط أيضًا بذكريات الطفولة والحنين إلى البلد الطيب، إلى بلدتي الحبيبة "زفتى" بمحافظة الغربية، حيث اعتدت أن أعيش أجواء العيد بكل تفاصيلها الجميلة والبسيطة، فمع شروق شمس أول أيام العيد، نخرج جميعًا لأداء صلاة العيد في الساحات المفتوحة، نُصافح بعضنا البعض بقلوب مليئة بالفرح، ونردد تكبيرات العيد التي تشيع دفئًا في النفوس.

بعد الصلاة، تبدأ طقوس الذبح والأضاحي، وهو مشهد إنساني وروحي عميق، نعيشه بكل قدسيته، حيث نشهد تنفيذ سنة أبينا إبراهيم عليه السلام.

إنها لحظة تجمع بين الامتثال لأمر الله، والفرحة بتوزيع لحوم الأضحية على الأقارب والمحتاجين والجيران، في مشهد تضامني يفيض بالمحبة والرحمة، ويُشعرنا بقيمة العطاء الحقيقي، لا شيء يضاهي هذه الأجواء، حيث يتحول العيد إلى مناسبة اجتماعية وإنسانية راقية تتجلى فيها معاني التعاون والتكافل.

وقد تعلّمت من هذه الأجواء أن العيد ليس مجرد مظاهر احتفالية، بل هو اختبار حقيقي لمعنى الإحساس بالآخر، والتعبير عن الامتنان لله بالنعم التي نعيشها، أيام العيد، بما تحمله من روحانيات وأبعاد اجتماعية، تعيد إلينا قيمًا ربما تُنسى في خضم الحياة، وتدفعنا إلى التمسك بما هو خير وأبقى، من المحبة والتسامح والتواصل الإنساني العميق.

وعلي الرغم من أنني لم يحالفني الحظ هذا العام بأن أكون بين زوار بيت الله الحرام، فإنني أكتب الآن عن تلك المناسبة العظيمة، وأتذكر حينما وقفت على جبل عرفات، في مشهد مهيب لم ولن يتكرر في أي مكان في العالم، ووجدتني وقد انهالت الدموع من عينىّ، وانتقلت من حال إلى حال، ورأيت الدنيا، بكل ما فيها، لا تساوي شيئًا، ووجدتني دون أن أدري متسامحًا مع كل من هم حولي، حتى من يناصبونني العداء، نعم لقد أصبحت في ثوانٍ معدودة متسامحًا مع الآخرين، متصالحًا مع نفسي، وكيف لا يكون الوضع على هذا النحو من الهيبة والإحساس بالتقوى والورع، وأنا أقف فوق بقعة من أطهر بقاع الأرض، هي جبل عرفات الذي تتجلى فيه رحمة الله، عز وجل، لعباده، فأصبح الدعاء مستجابًا في هذا المكان، حيث لا يوجد حجاب بين العبد والخالق- جل جلاله- ومهما حاولتُ وصف ما عشته في تلك اللحظات فإنني لا أستطيع أن أصف مدى شعوري وأنا أقف على جبل عرفات، ففي لحظات سريعة ذابت كل همومي وفاضت عيناي بدموع لم أرَ مثيلًا لها من قبل، خاصة وأنا أرفع أكف الضراعة إلى الله- عز وجل- على قمة هذا الجبل الذي قال عنه الرسول- صلى الله عليه وسلم- «الحج عرفة»، وذلك في إشارة واضحة لقيمة ومكانة وقدسية هذا الجبل المبارك، ومهما قلت ومهما كتبت عن هذه الأجواء فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أصف تلك الحالة الروحانية التي غمرتني في هذه الأثناء، حيث لم أستطع أن أتمالك نفسي حينما شعرت بهذه القشعريرة التي سرت بين ضلوعي، فشعرت بأن جسدي يغوص بالكامل، دون أن أدري، في بئر عميقة مليئة بحالة من الوجد ومن الذوبان في العشق الإلهي.

وللحق فإن هذا الشعور لا يمكن نسيانه، ولا أن يغيب عن الذاكرة مهما طال الزمن ومهما تعاقبت الشهور ومهما مرت السنون ومهما كانت طبيعة الشخص ومهما كان يتمتع بقوة التحمل، إلا أنه في تلك اللحظات تتبخر الأحقاد وتختفي، كأنها لم تكن موجودة أصلًا، وتتلاشى الخلافات وتصبح هي والعدم سواء، وتذوب المطالب الدنيوية وكأنها مجرد فقاعات هواء لم تدُم سوى بضع ثوانٍ قليلة، ليحل محلها إحساس لا يعادله أي إحساس في الدنيا، حيث تتولد داخل القلوب النقية والصافية رغبة أكيدة في التقرب إلى الله بشكل حقيقي، والتزود بالتقوى والورع والصفاء والنقاء، وكلها صفات ربما تكون في ظاهرها بسيطة وسهلة المنال، إلا أنها أمور لا يمكن أن يصل إليها أي شخص بسهولة، حيث تتطلب استعدادًا نفسيًا وتحضيرًا ذهنيًا من نوع خاص، كما تتطلب أيضًا استعدادًا وجدانيًا لا يمكن الوصول إليه بسهولة إلا بترويض النفس وكبح جماح المشاعر، خاصة غير السوية، التي تدفع البشر في كثير من الأحيان نحو ارتكاب أفعال وتصرفات بعيدة تمامًا عن تعاليم الدين الإسلامي السمح، لقد كانت رحلة الحج- ولا تزال- تمثل بالنسبة لي حالة خاصة من المصارحة مع النفس، حيث أشعر وكأنني أتخلص من الذنوب ومن الخطايا في غمضة عين، فتحولت - وبقدرة قادر- إلى شخص آخر لا يحمل لأحد أي حقد أو كره أو شماتة، حتى هؤلاء الذين أساءوا لي في يوم من الأيام لم أعد أحمل لهم أي كراهية، لأن من عرف حلاوة التطهر وحلاوة التقرب إلى الله يعز عليه أن ينظر مرة أخرى إلى الخلف.

ليتنا نمنح قلوبنا عطلة من الأحقاد، ونغسل أرواحنا بماء الطهر القادم من عرفات، ولنُجدّد العهد مع الله، بأن نكون كما يحب، ونُحب الناس كما يجب، ففي هذه الأيام، تُكتب المصائر، وتُفتح الأبواب، وتُسقى القلوب بالرحمة والمغفرة.

الصفحة السابعة من العدد رقم 415 الصادر بتاريخ 5 يونيو 2025
تم نسخ الرابط