قانون المشروعات الصغيرة.. الحلم الذي طال انتظاره

- قانون المشروعات الصغيرة والمتوسطة خطوة إستراتيجية لإعادة تشكيل الاقتصاد الوطني من القاعدة إلى القمة
- التشريعات الداعمة أن تُحوّل الأفكار الصغيرة إلى مشروعات منتجة تؤثر في حياة ملايين المصريين
- دور كبير للجمعيات الأهلية والمؤسسات غير التقليدية في تمويل المشروعات الصغيرة تحت مظلة رقابية صارمة
- القانون الجديد للمشروعات الصغيرة أداة لتحقيق عدالة إنتاجية بعيدًا عن هيمنة رأس المال الكبير
- قانون المشروعات الصغيرة يعيد تعريف النجاح في المجتمع المصري من خلال دعم رأس المال البشري
المشروعات الصغيرة أداة فاعلة لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة في الريف والمناطق المهمشة
في كل منعطف تمرّ به الأمم في رحلتها نحو مستقبل أكثر إشراقًا، تظهر فئة من الناس لا تحمل الأضواء، لكنها تحمل الوطن على أكتافها.
فئة لا تتصدر نشرات الأخبار أو عناوين الصحف، لكنها تتصدر مشهد الحياة اليومية بكفاحها النبيل، وعرقها الصادق، وأحلامها التي تتسلل من زوايا الواقع لتصبح حقيقة.
هؤلاء هم أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الذين اختاروا الطريق الصعب بإرادتهم، ورفضوا الاتكال، وبنوا من الصبر والمهارة والإبداع ما يُشبه المعجزة، رغم قسوة الظروف ومحدودية الإمكانيات.
في تقديري الشخصي، هؤلاء ليسوا مجرد أفراد يسعون للربح، أو يبحثون عن فرصة للرزق، بل هم رواة حقيقيون لقصة وطن يحاول أن ينهض من قلب التحديات.
إنهم يمثلون النبض الصادق للاقتصاد الوطني، ليس بالأرقام المجردة، ولا بالإحصاءات الباردة، بل بالواقع الحيّ الملموس، وبالأثر العميق في حياة الناس.
حين تدخل إلى ورشة نجارة صغيرة، أو محل خياطة بسيط، أو فرن بلدي في شارع جانبي بحي شعبي، فأنت لا ترى نشاطًا اقتصاديًا فحسب، بل ترى روحًا مصرية تقاتل لتصنع لنفسها مكانًا كريمًا في هذا العالم المتسارع، وترفض أن تُقصى أو تُهمَّش.
القانون المنتظر.. بداية عهد جديد
القانون الجديد المنظّم لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة ليس مجرد مجموعة من المواد القانونية تُضاف إلى السجلات الرسمية، أو إجراءات إدارية تدخل الأدراج.
بل هو تعبير صادق عن وعي متقدم من الدولة بأهمية هذه الشريحة الحيوية، ودورها المحوري في بناء اقتصاد وطني أكثر عدالة وشمولًا.
إن هذا القانون يحمل في جوهره رغبة حقيقية في التمكين، وفي تشجيع هذه المشروعات على مواصلة طريقها بثقة، بعد سنوات من التجاهل أو التهميش.
يمكن القول إن هذا القانون يمثل دفعة أمل قوية لكل يد عاملة في ورشة صغيرة، ولكل فكرة تجارية وُلدت في حارة أو حي شعبي، ولكل مشروع بدأ من لا شيء وتحول إلى كل شيء بفعل الجهد والإصرار.
إنه قانون يعترف رسميًا بأن الاقتصاد الوطني لا يُبنى فقط عبر الشركات الكبرى والمصانع العملاقة، بل يُبنى أيضًا عبر الحرفيين، وصغار التجار، ورواد الأعمال الشباب.
من حلم صغير إلى واقع ملموس
توقفت طويلًا أمام هذا القانون، لا بوصفه مجرد آلية مالية أو إطار تنظيمي، بل لأنه يمسّ تفاصيل دقيقة من حياة ملايين المصريين.
تفاصيل تبدأ من لحظة تفكير شاب في قريته أو حيّه الشعبي بأن يُقيم مشروعًا صغيرًا يوفّر له دخلًا مستقرًا، ويمنحه شعورًا بالكرامة والاستقلال، وتنتهي بلحظة نجاح هذا المشروع وقدرته على توظيف آخرين والمساهمة في الاقتصاد المحلي.
من خلال المادة التي تحدد الحد الأقصى لتمويل المشروع متناهي الصغر عند 200 ألف جنيه، مع إمكانية زيادته بنسبة 10% سنويًا، يظهر بوضوح فهم المشرع متغيرات السوق، واحتياجات رواد الأعمال في بداية الطريق.
هذه المرونة في التشريع تُعد من أبرز نقاط القوة، لأنها تجعل القانون حيًا وقابلًا للتكيف مع الظروف الاقتصادية، دون أن يكون بحاجة مستمرة إلى تعديلات كبرى، مما يحقق الاستقرار والوضوح لأصحاب المشروعات.
تمويل أقرب للناس.. رقابة أقرب للقانون
من النقاط المضيئة في القانون الجديد فتح الباب أمام الجمعيات والمؤسسات الأهلية المرخص لها بممارسة نشاط التمويل
هذه الجمعيات غالبًا ما تكون قريبة من الناس، تعرف ظروفهم، وتفهم احتياجاتهم، وتتعامل معهم بمرونة وإنسانية أكثر من البنوك التقليدية.
لكنها في الوقت نفسه لم تُترك دون ضابط أو رقيب، فقد وُضعت تحت مظلة رقابية صارمة تضمن الشفافية، وتمنع أي تجاوز أو استغلال.
هذا التوازن بين الإتاحة والرقابة، بين المرونة والانضباط، هو ما تحتاجه مصر اليوم.
فبدون الإتاحة، لا يصل التمويل إلى مستحقيه، وبدون الرقابة، يتحول الأمر إلى فوضى أو استغلال.
وهنا تتجلى فلسفة القانون الحقيقية: تمكين لا فوضى، وعدالة لا عشوائية، دعم لا تبعية.
التمويل الوهمي.. نهاية لعبة الكواليس
العقوبات التي نصّ عليها القانون ليست فقط بغرض الردع القانوني، بل تحمل في مضمونها رسالة قوية: من يتعامل مع أحلام الناس وأموالهم، عليه أن يكون جديرًا بالثقة، مسؤولًا بحق.
لم يعد هناك مكان لسماسرة التمويل، أو للممارسات غير القانونية التي كانت تستنزف أحلام البسطاء.
لم يعد مسموحًا بعد اليوم بإقحام الآخرين في مشروعات وهمية أو التلاعب بالكفالات المزيفة.
القانون واضح، والعدالة ستكون حاسمة في مواجهة كل من يخدع الناس باسم المشروعات الصغيرة.
من مستفيد إلى شريك في التنمية
ربما الأهم من كل ذلك، أن هذا القانون يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
فعندما يشعر صاحب المشروع الصغير بأن الدولة تراه، تفهمه، وتدعم طموحه، فإنه لا يعود مجرد مستفيد من الدولة، بل يتحول إلى شريك حقيقي في مشروع التنمية الشاملة.
هذه الشراكة، التي تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، هي ما يصنع المجتمعات القوية، والدول المستقرة.
إن بناء الثقة بين الدولة وصغار المستثمرين هو الخطوة الأولى نحو اقتصاد أكثر شمولًا وإنصافًا.
الثقة تفتح الأبواب، تشجع على الابتكار، وتحفز على المخاطرة المحسوبة، وتخلق مناخًا عامًا من التعاون البنّاء، لا الخوف أو الريبة.
فرصة لإعادة رسم ملامح الاقتصاد الوطني
لدينا اليوم فرصة ذهبية لإعادة تشكيل الاقتصاد المصري من خلال دعم وتطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
هذا القطاع يمكنه أن يكون العمود الفقري لاقتصاد متنوع ومستدام، إذا ما تم التعامل معه بالجدية المطلوبة.
إن تحفيز هذه المشروعات يعني تحفيز الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وتوفير فرص عمل حقيقية في كل قرية ومدينة.
كما أن هذه المشروعات تمثل فرصة لاكتشاف الإبداع المحلي، وتعزيز روح المبادرة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة.
فبدلًا من تركيز رأس المال في أيدي قلة من المستثمرين الكبار، يُمكن لهذا القطاع أن ينشر الثروة في أوساط أوسع من المجتمع.
البيئة الداعمة.. ضرورة لا رفاهية
لكن القوانين وحدها لا تكفي.
لا يكفي أن نُصدر تشريعًا جيدًا ثم ننتظر المعجزات.
لا بد من بيئة داعمة، تبدأ من تبسيط الإجراءات الحكومية، وتيسير الحصول على التراخيص، ومرورًا بإتاحة التمويل السريع، وانتهاءً بدعم تسويق المنتجات والخدمات الناتجة عن هذه المشروعات.
كما أن الإعلام عليه دور كبير في إعادة تعريف النجاح، بحيث لا يقتصر على الأغنياء أو أصحاب النفوذ، بل يمتد ليشمل الحرفيين ورواد الأعمال الصغار الذين يصنعون المعجزات في صمت.
النجاح الحقيقي.. في التوازن لا في التفاوت
ليس النجاح أن نرى ناطحات سحاب في المدن الجديدة، بينما آلاف الشباب لا يجدون دعمًا لمشروع صغير في قريتهم أو منطقتهم العشوائية.
النجاح الحقيقي هو أن نرى توازنًا بين الكبير والصغير، بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، بين رأس المال الضخم ورأس المال البشري البسيط الذي يحمل في قلبه وطنًا كاملًا.
لحظة لا تُفوّت
إنها لحظة فارقة لا يجب أن نفوّتها.
أن نُحسن البناء على ما تحقق. أن نضع اليد في اليد، قلبًا إلى قلب، وعقلًا إلى عقل، لنصنع معًا اقتصادًا لا يُقصي أحدًا، ولا يهمّش حلمًا صغيرًا.
في النهاية، ما نحتاجه ليس فقط قانونًا جيدًا، بل روحًا جماعية تؤمن بأن التنمية لا تُحتكر، بل تُشارك.
وأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع.. مشروع بعد مشروع، ويد بعد يد، وإرادة بعد إرادة.
