محمد فودة يكتب: "التيك توك" مقبرة النجوم

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- تحول بعض الفنانين إلى "تيك توكرز" سقوط مروع من القمة إلى قاع الابتذال 

- هروب النجوم إلى "اللايف" خطر يهدد هيبة الفن ويغرق الساحة في فوضى الترند والانحدار

- بعض النجوم يبيعون تاريخهم بثمن بخس على أرصفة السوشيال ميديا

- الفن أكبر من الترند.. والفنان الحقيقي لا يساوم على تاريخه

كنت ومازلت على قناعة تامة بأنه لا يصح إلا الصحيح، لكنني فوجئت بل صُدمت، حين رأيت بعض النجوم وقد تخلوا عن هيبتهم الفنية، وتحولوا إلى تيك توكرز يبحثون عن الترند بأي ثمن، فلم يعد المشهد فنيا كما عهدناه، ولم تعد الأضواء تُسلط على الموهبة والرسالة، بل على عدد المشاهدات، وعدد اللايكات، و"اللايفات" المفتوحة بلا هدف، نحن أمام لحظة فارقة، لحظة خلع فيها بعض الفنانين عباءة الهيبة، وتنازلوا طوعًا عن مكانتهم ليتحولوا إلى "يوتيوبرز وتيك توكرز" يركضون خلف الترند، ويقايضون تاريخهم بمحتوى تافه لا يشبه الفن في شيء.

ومن أسف أصبحنا نرى وجوها كانت تملأ الشاشة إبداعا، تجلس الآن على الأرائك أمام الكاميرا لتتحدث عن الأكل، والمشتريات، والمشاكل اليومية، وكأننا فقدنا البوصلة تمامًا، فهل هذا هو مصير الفن؟ وهل هذه هي نهاية النجم حين يسقط في فخ السوشيال ميديا؟ وللحق لم أكن أتخيل يوما أن أفتح "اليوتيوب" لأشاهد فنانا كبيرا، كنت أتابع أعماله في السينما أو على خشبة المسرح، وهو يجلس أمام الكاميرا يتحدث عن "روتينه اليومي" أو يتذمر من انخفاض مشاهداته، أو ربما يطلب من متابعيه "لايك وشير وسبسكرايب"، مشهد صادم، لا يمكنني أن أراه دون أن أشعر بغصة، وكأننا فقدنا شيئًا أصيلًا من جوهر الفن، وكأننا نشهد لحظة سقوط هيبة الفنان في مقابل وهم المتابعة والترند والربح السريع.

وللحق فإنه لم يعد الأمر مجرد استثناء، بل أصبح ظاهرة تتسع يومًا بعد يوم، فها هو فنان قدير قرر فتح قناة خاصة به، لا ليتحدث عن الفن أو يناقش أعماله السابقة، بل ليشارك فيديوهات عن طبخاته، وسيارته الجديدة، وأزماته الخاصة، وها هي فنانة لها تاريخ درامي طويل، تقتحم "اللايفات" وتتحدث مع المتابعين عن مشاكلها الشخصية، وتبكي أحيانًا أمام الكاميرا على الملأ، لا اعتراض على وجود الفنان في الفضاء الرقمي، فالتطور فرض نفسه، والجمهور بات يتنقل بين المنصات، ولكن هناك فرقا شاسعا بين أن يقدم الفنان محتوى يحترم تاريخه وموهبته، وبين أن يتحول إلى "يوتيوبر" عادي، يسعى فقط لكسب المال وزيادة المشاهدات بأي ثمن.

الخطورة في هذا التحول لا تكمن فقط في شكل المحتوى، بل في القيمة التي يفقدها الفنان تدريجيًا أمام جمهوره، فالنجم الذي كان ينظر إليه كرمز وقدوة ووجه يُعبّر عن وجدان الناس، صار فجأة ينافس بلوجر على إعلان لمستحضرات تجميل أو يتحدث عن "الدايت" أو تفاصيل حياته الحميمية، والمحصلة: اهتزاز الصورة، وتآكل الاحترام، وتراجع القيمة الفنية لصالح الربح اللحظي، في مجتمعات كانت تضع الفنان في موضع الصدارة، وتعتبره جزءًا من تشكيل وعيها الثقافي والاجتماعي، لم يعد من المقبول أن يصبح هذا الفنان مجرد "مؤثر رقمي"، يبحث عن إعلان أو ترند ليضمن دخله الشهري، الفن أكبر من ذلك، والفنان الحقيقي لا يساوم على تاريخه.

قد يقول البعض: "ولمَ لا؟ أليس من حق الفنان أن يستفيد من السوشيال ميديا كما يفعل الآخرون؟" والإجابة ببساطة: نعم، ولكن مع الحفاظ على دوره ومكانته، لا أحد ينكر أن عالم الفن قد تغير، وأن المنافسة أصبحت شرسة، وأن الدخل من الأعمال الفنية لم يعد كما كان بالنسبة لبعض النجوم، لكن اللجوء إلى هذا الشكل الاستهلاكي من الحضور الرقمي، يمثل خسارة للفنان قبل أن يكون ربحا، فالفنان الذي يتحول إلى "يوتيوبر" يربح أموالًا مؤقتة، لكنه يخسر الكثير من "وزنه الفني"، يخسر قدرته على الإلهام، وعلى لعب دوره المجتمعي، وعلى أن يكون مرآة تعكس قضايا الناس وآمالهم وآلامهم. ولعلنا نسأل أنفسنا: كم فنانًا نحترمه اليوم لمجرد ظهوره في بث مباشر وهو يطبخ أو يرقص؟ وكم فنانًا بقي في ذاكرتنا لأنه قدّم عملًا يلامس القلب والعقل؟ نحن بحاجة لأن نعيد ترتيب الأولويات، الفن ليس مجرد وسيلة لكسب المال، بل رسالة وقيمة، والفنان ليس صانع محتوى عابرًا، بل ضمير أمة، فهل يوجد من يستوعب الدرس قبل أن يتحوّل الفن كله إلى فيديوهات قصيرة، بلا مضمون، بلا احترام، وبلا أثر؟

واللافت للنظر أن الأمر لم يعد مقتصرا على بعض الوجوه الجديدة أو الفنانين من الصف الثاني، بل امتد ليشمل فنانات معروفات لهن تاريخ فني محترم، قررن أن يقدمن محتوى على السوشيال ميديا بهدف جذب التفاعل وجني الأرباح، نرى اليوم من كانت تتصدر بطولات درامية وسينمائية، وقد تحوّلت إلى "صانعة محتوى"، تنشر تفاصيل حياتها اليومية، وتستعرض مشترياتها، أو تروج لمنتجات عبر حساباتها، وكل ذلك تحت شعار "التقرب من الجمهور"، بينما الحقيقة أن ما يحدث هو تسويق مقنّع للربح المادي، على حساب المضمون والقيمة، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مريرا: هل تراجع الفن إلى هذه الدرجة، ليصبح مجرد وسيلة لكسب الأرباح بأي طريقة؟

في الماضي، كان الفنان رمزًا للهيبة والاحترام داخل المجتمع، محافظًا على تاريخه الفني وقيمته الإبداعية بكل فخر واعتزاز. كان يحترم دوره كصانع فن حقيقي يثري الوعي والثقافة، ويقدم أعمالًا تترك أثرًا عميقًا في نفوس الناس. كان التزامه بالجودة والتميز هو ما يميّزه، مما جعله يحتفظ بمكانة سامية في قلوب جمهوره، بعيدًا عن السطحية والابتذال، أما اليوم، فالأمر اختلف بشكل ملحوظ، حيث نجد بعض النجوم يتخلى عن هذه المبادئ ويهرول نحو الشهرة السريعة بأي ثمن، متناسين أن الفن رسالة وواجب تجاه المجتمع. أصبح البعض منهم يقدم محتوى سطحيًا على منصات التواصل، متهاونين في احترام تاريخهم الفني، ومخاطرين بمكانتهم وهويتهم لصالح الترندات والانتشار السريع. هذه الفجوة بين الماضي والحاضر تعكس أزمة حقيقية في مفهوم النجومية والفن ذاته.

إننى أعبر عن حزني العميق تجاه ما آل إليه حال بعض نجوم الفن، أولئك الذين كنا نراهم رموزًا وقدوات، ننتظر أعمالهم بشغف، ونحترم حضورهم وثقلهم في المشهد العام، لم نكن نتخيل أن تتحول تلك الأسماء الكبيرة إلى مجرد أدوات في سباق المحتوى السريع، يركضون وراء اللايكات، ويترقبون عدد المشاهدات كما لو كانوا مؤثرين مبتدئين، لا فنانين أثروا حياتنا بأدوار خالدة ومواقف لا تُنسى.

لقد أصبحنا اليوم في زمن تتراجع فيه القيمة أمام البريق المؤقت، وتُختصر فيه النجومية في "ترند يومي" سرعان ما يُنسى، لكن ما لا يُنسى، هو الأثر الحقيقي الذي يتركه الفن الأصيل، وهو الاحترام الذي يبنيه الفنان عبر عقود من العمل الجاد، لا عبر فيديوهات عشوائية تُنشر على عجل من أجل جني الأرباح، ما يحدث اليوم ليس مجرد "تطور طبيعي"، بل هو انحدار خطير يجب التوقف أمامه، لأن الساحة الفنية ليست مجرد وسيلة لكسب العيش، بل مرآة لوعي المجتمع وذائقته.

رسالتي لكل فنان أو فنانة قرر أن يتحول إلى "يوتيوبر" أو صانع محتوى سطحي: تذكر أنك لست مثل غيرك، أنت صاحب رسالة، لك جمهور ينتظر منك قيمة، لا استعراضًا، فكر فيما ستتركه وراءك، في الأثر، في الصورة التي ستظل عالقة في ذاكرة الناس، فالمشاهدات ستنخفض، والإعلانات ستنتهي، لكن القيمة تبقى، والفن، إن لم يكن أكبر من المال، فلا يستحق أن يسمى فنا.

الصفحة السابعة من العدد رقم 425 الصادر بتاريخ 21 أغسطس 2025
تم نسخ الرابط