مصر تُطلق عهد المدن الذكية وتفتح أبواب المستقبل

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- من الحجر إلى الإنسان.. إستراتيجية المدن الذكية تفتح أبواب الغد المصري

- مدن تتنفس مع ساكنيها: كيف تعيد مصر صياغة العمران بعقل ورؤية؟

- العمران الجديد ليس "جدرانًا وأسفلت" بل حياة تنبض بالذكاء والاستدامة

- مدن المستقبل تبدأ من الآن.. إستراتيجية مصر الذكية بين الحلم والتطبيق

- المدن الذكية.. جسر بين الحاضر والمستقبل ورهان مصر على التنمية المستدامة

- مصر لا تبني للحجر فقط.. بل تبني من أجل الإنسان وبالإنسان

- إستراتيجية المدن الذكية.. إعلان ميلاد مرحلة جديدة في الوعي العمراني المصري 

في لحظة تاريخية تفرض حضورها على مسار العمران المصري، تطل علينا الدولة بخطوة فارقة تحمل في جوهرها ملامح الغد المأمول، حيث تتلاقى الإرادة السياسية مع الرؤية الإستراتيجية لتعلن ميلاد الإستراتيجية الوطنية للمدن الذكية.

لم يكن هذا الحدث مجرد مؤتمر أو احتفال بروتوكولي، بل بدا وكأنه إعلان عهد جديد من الوعي والإصرار على أن مصر لا تقبل أن تظل حبيسة أنماط تقليدية في البناء والتنمية، بل تسعى إلى أن ترسم لنفسها ملامح مدن تعيش المستقبل منذ الآن.

كنت وما زلت على قناعة تامة بأن العمران ليس حجراً يعلو فوق حجر، بل حياة تنبض داخل فراغات وممرات، ومشاعر تتوزع بين أرصفة ومبانٍ، وذاكرة تُنقش في قلب المدينة كما تُنقش على جدرانها.

عندما أطلقت مصر هذه الإستراتيجية، شعرت وكأنها تترجم حلمًا ظل معلقًا في أذهان كثيرين؛ أن نمتلك مدنًا لا تستنزف طاقاتنا بل تدعمنا، لا تثقل يومنا بالمشقة بل تُيسر سبل العيش، مدنًا تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان ومحيطه، فتجعله جزءًا أصيلًا من نسيجها.

اللافت للنظر أن الفكرة لم تُقدَّم كترف تكنولوجي أو شعار للاستهلاك الإعلامي، بل جاءت باعتبارها خيارًا إستراتيجيًا يحمل في داخله معاني المواجهة الصريحة للتحديات العمرانية التي طالما أثقلت كاهل الدولة والمجتمع.

فهنا يتبدى الإدراك بأن الحلول التقليدية لم تعد تكفي، وأن العشوائية لم تعد مقبولة، وأن الفرص الحقيقية لا تُولد إلا من رحم التحديات إذا ما أُحسن إدارتها.

وأنا أتابع تفاصيل ما جرى الإعلان عنه، توقفت طويلًا أمام روح الطموح التي غلّفت الكلمات والوجوه.

بدا واضحًا أن الهدف ليس مجرد تزويد المدن بأجهزة استشعار أو أنظمة ذكية لإدارة المرور أو الطاقة، بل هو إعادة تعريف المدينة ذاتها.

مدينة تعي ساكنيها وتقرأ احتياجاتهم قبل أن يطلبوها، مدينة تعرف أن الإنسان هو جوهرها، فلا تُقصيه بل تمنحه حقه في أن يعيش حياة كريمة.

في تقديري الشخصي، إن أخطر ما واجه المدن المصرية لعقود لم يكن نقص العمران أو شح الموارد فحسب، بل غياب الرؤية التي تجعل من المدينة كائنًا حيًا ينمو مع سكانه ويتكيف مع متغيراتهم.

اليوم، حين نتحدث عن المدن الذكية، فإننا لا نتحدث عن أفق تكنولوجي جامد، بل عن محاولة صادقة لإعادة التوازن بين الطبيعة والعمران، بين الإنسان والحجر، بين الاقتصاد والبيئة.

إنها فلسفة جديدة ترى أن المدينة ليست مجرد مسرح للحركة اليومية، وإنما هي أداة لتجسيد العدالة الاجتماعية، ووسيلة لضمان استدامة الحياة، وجسر يربط بين الحاضر والمستقبل.

وهنا يكتسب المشروع قيمته الإنسانية قبل أن يكتسب قيمته التقنية؛ لأنه يضع الإنسان في قلب المعادلة، لا كرقم في تعداد سكاني، بل ككائن فاعل يستحق مدينة تصغي له وتستجيب.

المدن الذكية التي تحلم بها مصر هي مدن لا تُدار من مكاتب مغلقة أو أجهزة بيروقراطية متكلسة، بل تُدار من خلال بيانات حية تنبض في شبكاتها، ومراكز تحكم ترصد كل تفاصيلها، وأنظمة قادرة على معالجة الأعطال قبل أن تتحول إلى كوارث.

هي مدن تعرف متى تضيء شوارعها ومتى تُطفئها لتُحافظ على الطاقة، تدرك مواطن الخلل في شبكاتها المائية فتتدخل تلقائيًا، تُراقب جودة الهواء وتُطلق الإنذارات قبل أن تتفاقم الأزمة.

كل ذلك ليس من أجل التفاخر أو المباهاة، بل من أجل أن يحيا المواطن حياة أكثر أمنًا وراحة.

ولعل أكثر ما يبعث على التفاؤل أن هذه الإستراتيجية لم تُصمم لتظل حبيسة الأدراج أو مطوية في ملفات النوايا، بل انطلقت مباشرة نحو التطبيق في المدن الجديدة، حيث المساحة أرحب للتجريب والابتكار، فالعاصمة الإدارية الجديدة، والعلمين، والمنصورة، وسواها، ليست مجرد مشروعات إنشائية ضخمة، بل مختبرات حية لتجسيد هذه الرؤية.

فيها تتلاقى التكنولوجيا مع الحجر، وفيها تتشكل ملامح مدينة المستقبل التي لا تنفصل عن حاضرها، والأجمل أن هذه التجربة لن تقتصر على الجديد وحده، بل ستُنسخ تدريجيًا إلى المدن القديمة التي أنهكتها العقود الطويلة من التكدس والعشوائية.

ما يلفت الانتباه أن الإستراتيجية تضع نصب أعينها ليس فقط البنية التحتية والخدمات، بل الاقتصاد والثقافة والبيئة أيضًا، فهي تدرك أن التنمية لا تكتمل إلا إذا كانت شاملة، وأن المدينة لا تكون ذكية بحق إلا إذا كانت قادرة على توليد فرص عمل جديدة، وجذب استثمارات، وتوفير بيئة نظيفة، وتمكين المواطن من أن يشارك في صنع القرار.

هنا تتجلى القيمة المضافة للمشروع: أنه لا يُعيد تشكيل العمران فحسب، بل يُعيد تشكيل الوعي الجمعي.

فالمواطن الذي يعيش في مدينة ذكية سيُدرك أن صوته مسموع، وأن مشاركته فاعلة، وأن مستقبله لا يُصنع بمعزل عنه.

ولأن أي مشروع بهذا الحجم لا بد أن يواجه تحديات جسامًا، فإن الأمر يحتاج إلى إرادة مستمرة لا تلين.

فالتمويل سيكون تحديًا، والكوادر البشرية المؤهلة ستظل عاملًا فارقًا، والبنية التحتية في المدن القديمة ستتطلب جهدًا مضاعفًا للتطوير.

 لكنني أؤمن بأن الإرادة التي جعلت مصر تنهض من كبوات كبرى، وتبني مشروعات عملاقة في سنوات قليلة، قادرة أيضًا على أن تدفع هذا المشروع نحو النجاح.

الأمر يتطلب فقط رؤية متكاملة، وتنسيقًا بين كل مؤسسات الدولة، وانفتاحًا على الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.

إنني أرى أن هذه الإستراتيجية تحمل بداخلها بعدًا روحيًا وإنسانيًا بقدر ما تحمل بعدًا تقنيًا.

فهي تقول للمواطن: لست وحدك في مواجهة صعوبات الحياة، بل هناك مدينة ستقف إلى جانبك، تُخفف عنك الزحام، تُقلل من استهلاكك للطاقة، تُحافظ على بيئتك، وتمنحك شعورًا بالانتماء.

وفي ذلك كله تتجلى قيمة الإنسان الذي طالما كان غاية التنمية ووسيلتها في الوقت نفسه.

من يتأمل التاريخ يدرك أن المدن كانت دائمًا انعكاسًا لروح الحضارات.

مدن الفراعنة جسدت روح القوة والتنظيم، ومدن العصور الإسلامية عكست روح العدالة والروحانية، واليوم تُريد مصر أن تبني مدنًا تعكس روح العصر: الذكاء، الاستدامة، والإنسانية.

ليست هذه المدن مجرد تراكم لمبانٍ شاهقة أو طرق واسعة، بل هي انعكاس لطموح أمة أرادت أن تكتب فصلًا جديدًا في كتاب وجودها.

توقفت طويلًا أمام صورة المستقبل كما رسمتها هذه الإستراتيجية.

تخيلت مواطنًا يستيقظ في مدينة ذكية، يعرف من خلال تطبيق بسيط على هاتفه الطريق الأسرع إلى عمله، يركب وسيلة نقل نظيفة لا تُلوث الهواء، يعود إلى بيته فيجد استهلاك المياه والكهرباء قد انخفض بفضل نظام ذكي، ويشعر أنه جزء من منظومة لا تُهدر موارده ولا تُبدد طاقته.

إنها صورة لمدينة تتنفس معه، وتكبر معه، وتتعلم من سلوكياته لتُحسن خدمته.

هكذا وجدت نفسي أقول: لسنا أمام مشروع عمراني بارد، بل أمام مشروع حياة يفيض بالدفء الإنساني.

مدينة الغد ليست جدرانًا وأسفلت، بل هي حلم يتحقق بأن يجد الإنسان في محيطه صديقًا لا عبئًا، عونًا لا خصمًا، شريكًا لا مجرد إطار صامت.

وفي ذلك كله يكمن سر النجاح: أن مصر لا تبني فقط للحجر، بل تبني للإنسان، ومن أجل الإنسان، وبالإنسان.

من هنا يمكنني القول إن إطلاق الإستراتيجية الوطنية للمدن الذكية ليس مجرد خطوة في سجل التخطيط العمراني، بل هو إعلان واضح أن مصر تُصر على أن تكون جزءًا من المستقبل، وصانعة له.

وحين يُكتب تاريخ هذه المرحلة، سيذكر أن هذا اليوم لم يكن كغيره، بل كان لحظة ميلاد جديد لمدن مصرية تحمل في قلبها عبق الماضي وروح المستقبل.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 430 الصادر بتاريخ  2 أكتوبر 2025

 

تم نسخ الرابط