فى الوقت الذى تواترت فيه الإدانات الدولية للانتهاكات الكبيرة التى ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلى فى قطاع غزة، منذ أكتوبر الماضى، فى انعكاس صريح لبشاعتها، إلا أنها لم تكن كافية إطلاقا لاحتواء الموقف المتأزم، فى ضوء التعنت الإسرائيلى، والإصرار على مواصلة الطريق نحو إبادة الفلسطينيين، إن لم يكن تهجيرا فليكن قتلا، وهو ما يمثل الهدف الرئيسى من الحملة المسعورة التى تشنها الدولة العبرية، والتى سعت إلى توظيف عملية طوفان الأقصى من أجل تحقيق هذا الهدف تحت ذريعة الدفاع عن النفس، بينما ظهرت بعد ذلك دعوات تهجير سكان غزة، لتكشف الأهداف الحقيقية للعدوان، والتى تبتعد جزئيا عما روجت إليه حكومة نتنياهو فيما يتعلق بالقضاء على الفصائل التى يدعى أنها بمثابة تهديد وجودى لبلاده.
والحديث عن الجرائم الإسرائيلية فى غزة، يندرج تحت بند الإبادة الجماعية، على المسارين المذكورين سلفا، وهما القتل، عبر استهداف المدنيين، ومنشآتهم، ومنازلهم، وهو ما أسفر عن مقتل آلاف البشر، معظمهم من النساء والأطفال، بينما يقوم المسار الآخر حول التهجير، وهو المسار الذى حاولت الدولة العبرية شرعنته، عبر الدعوة إليه وتحقيق قدر من الحشد الدولى، من خلال إضفاء غطاء إنسانى له، على اعتبار أن إخراج الفلسطينيين من أراضيهم يأتى فى إطار حمايتهم من آلات الاحتلال العسكرية التى لن تتخاذل فى تحقيق هدفها الظاهرى، والقائم على تصفية الفصائل والقضاء عليها، بينما فى واقع الأمر فهو تصفية القضية الفلسطينية.
إلا أن الدولة المصرية نجحت باقتدار منذ لحظات العدوان الأولى فى مواجهة الادعاءات الإسرائيلية، واتخاذ موقف حاسم تجاه دعوات الاحتلال، فيما يتعلق بالتهجير، لتواجه محاولات الدولة العبرية لحشد المجتمع الدولى، بما يمكننا تسميته بـ"سياسة الحشد المضاد"، وهو ما بدا فى الدعوة المبكرة، لعقد قمة دولية، تحت عنوان "القاهرة للسلام"، لترسم من خلالها الدولة المصرية خطوطها الحمراء، فيما يتعلق بنقاط ثلاث تحمل قدرا كبيرا من الارتباط والترابط، وهى الرفض المطلق لتصفية القضية الفلسطينية، ورفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، مع الضغط من أجل تمرير المساعدات الإنسانية.
الارتباط بين النقاط الثلاث سالفة الذكر يبدو واضحا للغاية، فالتهجير يهدف إلى تصفية القضية، وتقويض أى أمل فى بناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، بينما حرمان أهل غزة إلى جانب القصف الوحشى، يهدفان إلى إجبارهم على ترك أراضيهم، وهو الأمر الذى يعكس قراءة مصرية واعية للمشهد فى غزة، ساهمت بصورة كبيرة فى إنجاح رؤيتها التى توافق حولها العالم.
التوافق الدولى يمثل أحد أهم مسارات التصدى للخطة التى تبناها الاحتلال، ولكن يبقى هناك مسار آخر، يدور فى جوهره حول الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وحكومته، عبر المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وفى القلب منها مجلس الأمن الدولى، وهو ما كشف العديد من العورات داخل أروقة تلك الكيانات، التى من المفترض أنها تعمل للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وهو الأمر الذى بدا بجلاء فى تعثر قرار وقف إطلاق النار لأكثر من مرة، بسبب الفيتو الأمريكى، وحتى عندما امتنعت واشنطن عن التصويت، وتم تمرير قرار بالتوقف عن القتال خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان، لم تلتزم به الدولة العبرية، فى انعكاس صريح للأزمة التى تعانيها المنظومة الدولية، والتى تعانى جراء انحيازات صارخة، من شأنها اختلال موازين العدالة الدولية، وهو ما يمثل تهديدا صريحا للاستقرار العالمى.
وعلى ذكر العدالة الدولية، نجد أن أول ما يتبادر إلى الذهن لجوء جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل، والتى تمثل الجهاز القضائى للأمم المتحدة، باعتبارها تحمل شقا مهما من شأنه تعزيز حقوق الفلسطينيين، من جانب، واحتواء الانتهاكات المرتكبة من قبل الاحتلال من جانب آخر، على الأقل فى الإطار الأخلاقى، خاصة أنه من المعروف أن قراراتها غير ملزمة، ولكنها تضع المزيد من الحرج على كاهل الاحتلال، والدول الداعمة له، بينما قدمت دول أخرى شهاداتها، وعلى رأسها مصر، والتى قدمت مرافعة تاريخية، أمام العالم حول ما ارتكبته إسرائيل من جرائم فى الأراضى الفلسطينية.
إلا أن غياب البعد الإلزامى المرتبط بقرارات المحكمة ساهم فى تعزيز حالة التعنت الإسرائيلى، مما ساهم فى انكشاف بعد جديد من أبعاد القصور فى الدور الذى ينبغى أن تلعبه المنظمات الدولية، لفرض الاستقرار العالمى، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
وهنا تبدو الأهمية الكبيرة فى تعزيز الدور الذى تلعبه تلك المنظمات، بحيث تنتصر ليس فقط للعدالة، وإنما للشرعية الدولية، وهو ما يبدو فى تجاهل رؤية الأغلبية الكاسحة من أعضاء المجتمع الدولى، لصالح قوى واحدة، تملك الحق فى تقويض القرارات، مما ساهم فى زيادة حجم الانتهاكات واتساع نطاقها الجغرافى.