الجمعة 22 نوفمبر 2024
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

"الذوق العام" خرج ولم يعد

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشفية

- أغاني  المهرجانات والموسيقى  الهابطة تقتلان الفن الراقي  مع سبق الإصرار 

- "مرتزقة" الفن وأشباه المطربين يشوهان الهوية الثقافية المصرية 

- غابت الرقابة فانتشرت الثقافة الهابطة والألفاظ الخادشة للحياء

- "الترند" و"الشهرة السريعة" و"السبوبة" مثلث الخطر الذي  يهدد الساحة الغنائية 

على  الرغم من أنني كنت أتصور أن ما يحدث في  المشهد الفني المصري طوال السنوات الأخيرة من تحولات جذرية، أبرزها تراجع ملحوظ في مستوى  الذوق العام، وخاصة في مجال الغناء، بسبب خلل ما، فإنني   أصبحت على  يقين تام بأن ما يحدث ليس مجرد خلل، بل هو انعدام تام للذوق الجماهيري  في  مصر، مما دفعني  للقول بأن ذوق الجمهور أصبح بالفعل في  ذمة الله، فما يحدث من تراجع مخيف خلال السنوات الماضية تجلى  في صعود مطربي المهرجانات وتصدرهم الساحة الفنية، وأيضا صعود البلوجرز والتيك توكرز وغيرهم من أنصاف وأرباع المواهب وإن شئت قل معدومي  الموهبة سببه الرئيسي يكمن في  ذوق الجمهور الذي  ذهب بلا رجعة وكأنه هاجر بتأشيرة خروج بلا عودة.

وربما يكون أحد أهم الأسباب التي أدت إلى  هذا التراجع هو التغيرات السريعة التي يشهدها المجتمع المصري، والتي انعكست على تفضيلات الجمهور، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى مختلف أنواع المحتوى ، أصبح الجمهور أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية، مما أدى  إلى  تشتت الذوق وتفضيل المحتوى  الذي  يعتبرونه سريعا، حتى  الأفراح أصبحنا لا نسمع فيها سوى  أغاني  المهرجانات، بالإضافة إلى  ذلك، فإن التوجه نحو الترفيه السريع والهروب من مشاكل الحياة اليومية، دفع الكثيرين إلى  البحث عن الموسيقى  التي تقدم لهم ذلك، وهو ما وجدوه في المهرجانات التي  تحمل مضموناً سطحياً لا يعبر عن الذوق الحقيقي  ولا يجسد متطلبات السميعة الحقيقيين حتى  وإن كان هناك جمهور من شريحة معينة ومن فئات معينة تستهويه هذه النوعية من الأغاني التافهة، وللحق لست أدري  متى  يفيق هذا الجمهور وهذه الفئة من غفلتهم ويعودون إلى صوابهم ويفسحون المجال للأغنية الراقية لتعود مجددا وتتصدر الساحة الغنائية داخل وخارج مصر لتغذي  الروح والوجدان بالأصوات العذبة والألحان الشجية والكلمات الرائعة التي تجعل المستمع يحلق بعيداً في  سماء الإبداع الراقي .

وللأسف فإن توجه الجمهور في  الفترة الأخيرة نحو كل ما هو هابط أدى  إلى  تدهور مستوى  الذوق الفني بشكل عام، وتقليل قيمة الفن الأصيل، وساهم في انتشار الثقافة الهابطة والألفاظ النابية، مما يؤثر سلبًا على  القيم والمبادئ المجتمعية، وحينما دققت في  المشهد وضعت يدي  على  عدة نقاط وهي:  سيطرة ثقافة الاستهلاك حيث تسود ثقافة الاستهلاك السريع في عصرنا، ويبحث الجمهور عن الترفيه السهل والمباشر، مما يقلل من قدرته على  تقدير الفن الراقي والمعقد، أيضا صعود وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أدت وسائل التواصل الاجتماعي إلى  انتشار المحتوى  السطحي والهابط، مما ساهم في تكوين ذوق عام منخفض، كما يلعب التسويق والإعلانات دورًا كبيرًا في توجيه ذوق الجمهور نحو منتجات معينة،بغض النظر عن قيمتها الفنية، كما يسعى  الكثير من الفنانين إلى  تحقيق الشهرة السريعة بأي وسيلة، مما يؤدي إلى  إنتاج أعمال فنية سطحية تهدف إلى  الترفيه وليس الإبداع، وأيضا ضعف دور المؤسسات الثقافية في نشر الوعي الفني وتشجيع الإبداع الأصيل.

الغريب بل والمدهش في  الأمر أن موجة الأغاني  الهابطة ليست أغاني  شعبية ولا تمت لها بأية صلة؛ لأن الأغاني  الشعبية المصرية لها تاريخ عريق ولها مطربوها الكبار الذين قدموا أغنيات في  منتهى  الروعة لا تزال تعيش بيننا حتى  الآن، وللحق ما شهدته الساحة الغنائية في  مجال أغاني المهرجانات مؤخراً وما تضمنه من تصرفات غريبة الشكل جعلني  أكتب عن هذه التفاهة فقد لاحظت انزلاق أقدام نجوم السينما والدراما في  وحل أغاني  المهرجانات بظهورهم كموديل مع بعض المطربين الذين يقدمون هذا النوع التافه من الأغاني ، ففي تقديري  الشخصي  قد بات ضرورياً أن تكون هناك وقفة مع النفس ويفكر كل نجم أو نجمة في  تلك الخطوة التي  قد تؤثر على نجوميته وذلك بالابتعاد عن هذا المجال وعدم التفكير مجددا في  خوض هذه التحربة التي  بكل تأكيد سوف تؤثر بالسلب على  نجوميته واحترام جمهوره له فمن يتابع ما يتم تداوله عبر مواقع السوشيال ميديا يفاجأ بحالة من الرفض التام لهذا الظهور من جانب النجوم في  أغاني  المهرجانات.

ولعلنا جميعا نريد أن نتجاوز هذه الأزمة حيث يجب على المؤسسات الثقافية أن تلعب دورًا أكبر في نشر الوعي بأهمية الفن الأصيل، وتشجيع المواهب الشابة على  تقديم أعمال ذات قيمة فنية عالية، وأيضا على  الأسرة والمدرسة أن يزرعا في نفوس الأجيال القادمة حب الفن والثقافة، وتعليمهم كيفية التمييز بين الجيد والرديء، وأيضا صناع القرار أن يدعموا المشاريع الفنية الجادة، وتوفير بيئة محفزة للإبداع، فقوة مصر الناعمة كانت -ولا تزال- تمثل الركيزة الأساسية في  خلق تلك المكانة المرموقة التي  تتبوأها مصر على  المستوى الدولي  في  مجالات الفنون والإبداع بمختلف أنواعه وأشكاله، فقد كانت مصر إلى  وقت قريب تسمى  بـ «هوليوود الشرق»، حينما كانت بمثابة القبلة التي  يحج إليها عشاق الفنون الذين يفدون إليها من مختلف أنحاء العالم العربي ، مما جعلها بمثابة تأشيرة الدخول المعتمدة لعالم الشهرة والتألق الذي  ينشده عشاق الفنون والثقافة والآداب، لقد كانت مصر بالفعل منارة الفن والثقافة، حتى إن اللهجة المصرية انتشرت في  جميع البلاد العربية بسبب أفلام ومسلسلات وأغاني  الفنانين والفنانات المصريين، بفضل فنهم الراقي ، وقدرتهم الفائقة على  الإبداع والتألق في  هذا المجال، لكن في  غفلة من الزمن تبدلت أحوال الفن المصري  واختفى تدريجيا الطرب الأصيل.

وللحق فإني  لا أعرف ماذا جرى  للساحة الغنائية والفنية بالكامل، أشعر بأن هناك شيئا غريبا طفى  على  السطح، ولا أدري  لماذا طال المطال بنا حتى  وصلنا إلى هذه الدرجة؟! ويبقى  السؤال قائما ومحيرا: لماذا لم تعد أغاني  هذا الجيل تتمتع بالقدرة على  البقاء؟ ولماذا لا تبقى  في  الذاكرة كما اعتدنا من كبار المطربين الذين تربى  وجداننا على أغانيهم من أصحاب الحناجر الذهبية؟ فأغاني الحب التي  نسمعها الآن سرعان ما تختفي  وتزول وكأنها فقاعات هواء تظهر ثم تتلاشى  فجأة في نفس اللحظة، وتصبح هي  والعدم سواء، خاصة أنها غير مفهومة من الأساس، تراجع الذوق الفني في مصر هو تحدٍ كبير يواجه المجتمع، ولكنه ليس مستحيلاً حله، من خلال العمل الجماعي والوعي بأهمية الحفاظ على  الهوية الثقافية، يمكننا استعادة رونق المشهد الفني المصري، وتقديم أعمال فنية تعكس تطلعات وآمال الأجيال القادمة.

تراجع الذوق العام وانحداره الذي  يفوق المستوى  هو تحدٍ كبير يواجه المجتمعات المعاصرة، يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، من الفنانين والمؤسسات الثقافية إلى  الجمهور نفسه، يجب أن نعمل جميعًا على  إعادة الاعتبار للفن كوسيلة للتعبير عن الذات والإبداع، وأن نرفض كل ما يقلل من قيمة الإنتاج الفني الأصيل، لأن الفن ليس مجرد ترفيه، بل هو مرآة تعكس حضارة الشعوب.

الصفحة السابعة من العدد رقم 383 الصادر بتاريخ 17 أكتوبر2024

 

 

 

تم نسخ الرابط