محمد فودة يستكمل استعادة ذكرياته ويكتب: فاروق حسني صانع المعجزات والحارس الأمين على الحضارة والتراث
ـ تطوير منطقة البر الغربي.. من الإهمال إلى الوجهة العالمية
ـ مقبرة نفرتاري.. الحفاظ على ألوان الحضارة الفرعونية الخالدة
ـ متحف التحنيط.. نافذة على أسرار الفراعنة وفلسفتهم في الحياة والموت
ـ إعادة إحياء طريق الكباش.. جسرٌ بين ماضٍ عريق وحاضرٍ ينبض بالحياة
ـ الطريق المؤدي لمعابد البر الغربي.. تحويل الظلام إلى شعاع جذب سياحي
حينما كتبت الأسبوع الماضي عن الوزير الفنان فاروق حسني وإنجازاته التي لا تُعد ولا تُحصى في مجالات الثقافة والإبداع والحفاظ على التراث والحضارة، فوجئت بكم هائل من الذكريات التي بدأت تطفو على سطح ذاكرتي، لأجد نفسي وكأنني أشاهد شريط ذكريات بمشاهده المتتابعة يمر أمامي، ليصنع لي حالة من البهجة تفوح منها روائح الزمن الجميل، زمن الإنجازات الكبرى التي ستظل محفورة في سجل التاريخ بحروف من نور.
فاروق حسني لم يكن مجرد وزير أو مسؤول رسمي، بل كان أيقونةً للإبداع، وحافظاً تراث مصر وحضارتها بكل ما تحمله من عظمة وأصالة ، فقد عاصرتُ معه سنوات من العمل عن قرب ، وشاهدت أدق التفاصيل عن المشاريع العملاقة التي بادر بها في منطقة الأقصر، خاصة في البر الغربي، حيث كانت تلك المنطقة في ذلك الوقت تعاني من الإهمال. والحق يقال فإنني كنت محظوظاً أنني كنت شاهداً على رؤيته الطموحة لإحياء هذا المكان، واستطعت أن ألمس بنفسي تأثير هذه الرؤية في تحويل البر الغربي من منطقة مظلمة وصعبة الوصول إلى وجهة مضيئة تجذب السياح من جميع أنحاء العالم.
فاروق حسني كان يدرك أن معابد البر الغربي ليست مجرد معالم سياحية، بل هي جزءٌ من هوية مصر وتراثها، لذا كان يسعى جاهداً لجعلها في متناول الجميع، فقام بتطوير الطريق المؤدي إلى هذه المعابد، مما جعل الوصول إليها سهلاً وآمناً حتى في ساعات الليل. لم أنسَ ما حييت ما شاهدته بنفسي من تلك الجهود، فقد كان هذا المشروع بمثابة ولادة جديدة للبر الغربي، إذ أعاد إليها الحياة وجعل منها نقطة جاذبة تعكس روعة الحضارة المصرية ، فالطريق الذي كان في السابق موحشاً ومظلماً، أصبح الآن طريقاً مضاءً مملوءا بالحركة والحياة، وكلما مررت عليه تذكرت كيف كان هذا المكان سابقاً وكيف كان فاروق حسني وراء هذا التحول الذي يبدو كالمعجزة.
أما مقبرة نفرتاري، فهي قصة أخرى من قصص النجاح التي شاهدتها تحت إدارة فاروق حسني، والتي ما زلت أتذكر تفاصيلها وكأنها حدثت بالأمس ، هذه المقبرة، المعروفة بألوانها الزاهية ورسوماتها الفريدة، كانت مهددة بفقدان رونقها بفعل الزمن، إلا أن فاروق حسني أدرك أهمية الحفاظ على هذا الإرث العظيم ، لقد عاصرت مراحل الترميم، وشاهدت بنفسي الجهود الجبارة المبذولة للحفاظ على ألوان الرسومات وكأنها جديدة، وهو إنجاز يُعد معجزة بحد ذاته ، وأعتقد أن الحفاظ على ألوان تلك الرسومات يُعتبر دليلاً على احترام فنون الفراعنة، وهو ما جعل من مقبرة نفرتاري أيقونةً تاريخية تحكي لنا عن عظمة فنون مصر القديمة وروح الحضارة التي لم ولن تموت.
لقد كان هذا العمل بالنسبة لي يمثل دليلاً حياً على التزام فاروق حسني العميق بالحفاظ على التراث، وليس فقط الحفاظ عليه، بل تقديمه للعالم في أبهى صورة ممكنة ، والحق يقال حينما كنت أتجول في تلك المقبرة بعد إتمام الترميم، شعرت بأنني أمام قطعة فنية خالدة، لوحة حيّة تجمع بين عبقرية الفنان القديم وإبداع المرممين الذين عملوا بتوجيهات من فاروق حسني ، تلك الرسومات البديعة لم تعد مجرد خطوط وألوان؛ بل باتت تحمل روحاً جديدة تنبض بالحياة.
في نفس سياق التطوير، كان هناك أيضاً متحف التحنيط بالأقصر، الذي أسسه فاروق حسني ليكون منارة للمعرفة والفن، فقد شاهدته وهو ينمو ليصبح أحد أهم المتاحف في العالم في مجاله وفي تقديري، كان هذا المتحف بمثابة بوابة للعالم لفهم أسرار التحنيط، تلك التقنية العميقة التي تعبر عن نظرة الفراعنة للحياة والموت .. إن فاروق حسني لم يكن يهدف فقط إلى عرض فن التحنيط، بل أراد أن يعبر من خلال هذا المتحف عن رؤية مصرية حضارية للحياة والموت، رؤية تنظر إلى هذا التراث ليس فقط كعملية علمية، بل كجزء من روح الأمة وهويتها.
أما طريق الكباش، الذي يُعتبر من أعظم المشروعات التي شهدتها منطقة الأقصر، فقد ساهم في تعزيز مكانتها السياحية، وهو الطريق الذي يربط معبدي الكرنك والأقصر، والذي يعد جسرًا يربط بين ماضينا وحاضرنا ، لقد لمست كيف كان هذا المشروع يتقدم خطوة بخطوة، وكيف كان كل حجر يوضع بعناية ليعيد إلى الطريق رونقه الأصلي ويعيد له الحياة. في رأيي، طريق الكباش ليس مجرد طريق أثري، بل هو رمز لالتزام مصر العميق بتراثها، ويمثل جسراً ثقافياً بين عراقة الماضي وأصالة الحاضر.
تلك السنوات التي عملت فيها في وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني كانت بمثابة مدرسة للإبداع، فقد كان يسعى دائماً للارتقاء بعمله ليعكس مدى التزامه العميق بالحفاظ على التراث، حتى باتت إنجازاته تحمل بصمته الفنية والفكرية، شاهدة على رؤيته المتفردة في صناعة المعجزات.
حينما أستعيد تلك اللحظات التي عشتها في أروقة وزارة الثقافة، أتذكر تفاصيل دقيقة تعكس مدى حبه وإخلاصه لهذا الوطن وتراثه ، لم أنسَ ما حييت ذلك الإصرار الذي كان يتحدث به عن أهمية كل حجر وكل نقش، وكيف كان يعتبر الآثار المصرية رسالة متجددة عبر العصور، تربط بين الماضي والحاضر، وتجعل من مصر رمزاً للتراث الإنساني على مستوى العالم.
في تقديري، لم يكن فاروق حسني مجرد وزير يسعى لإنجازات يُذكر بها، بل كان فناناً حمل على عاتقه مسؤولية جسيمة تجاه تاريخ مصر وحضارتها. كانت روحه تتجلى في كل مشروع، وكان يرى في كل خطوة نحو تطوير المواقع الأثرية خطوة نحو تحقيق حلمه الأكبر: أن تظل الحضارة المصرية، بكل عظمتها وتنوعها، حيةً في ذاكرة العالم وراسخةً في قلوب المصريين.
لذا أرى أن كل عمل تم إنجازه في عهده وتحت قيادته لا يزال يحمل بصمته الفنية وعمقه الفكري. إن تجربة العمل معه تركت في نفسي أثرًا عميقًا، ورسخت لديّ يقينًا بأن فاروق حسني هو من صناع المعجزات الذين لا يتكررون كثيراً في تاريخنا.