الخميس 22 مايو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

المنطقة الاقتصادية.. رهان الدولة الذكي على ريادة غير تقليدية

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- المنطقة الاقتصادية لقناة السويس واحدة من أنضج التجارب التنموية التي أطلقتها الدولة المصرية في العقدين الأخيرين

- الدولة ولأول مرة منذ عقود  تُمسك بمفاتيح النمو من باب التخطيط بعيد المدى

- المنطقة تجذب عشرات الشركات الكبرى من دول متعددة وعلى رأسها الصين

- اتفاقيات بلغت قيمتها أكثر من 12 مليار دولار خلال عام 2024 وحده

- خلق عشرات الآلاف من فرص العمل سواء من خلال المصانع المقامة داخلها أو عبر سلاسل الإمداد والخدمات المرتبطة بها

- الدولة تفتح المجال للشركات الكبرى للدخول بمشروعات ذات جدوى اقتصادية

- حوافز وتيسيرات غير مسبوقة دون التفريط في السيادة أو القواعد المنظمة

- حجم التنوع في المشروعات المقامة داخل هذه المنطقة يجعلها لا تتأثر سلبًا بأي أزمة عالمية في قطاع واحد

سأظل على قناعة تامة بأن النجاح الاقتصادي لا يرتبط فقط بالأرقام أو المؤشرات الصمّاء، بل يرتبط بالرؤية، والجرأة في اتخاذ القرار، وتبنّي سياسات غير تقليدية في إدارة موارد الدولة وموقعها الجغرافي.

 لذا، توقفت طويلًا أمام ما تم إنجازه - وما يتم إنجازه حاليًا - داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، باعتبارها واحدة من أنضج التجارب التنموية التي أطلقتها الدولة المصرية في العقدين الأخيرين، ليس فقط على مستوى البنية التحتية أو المشروعات الصناعية، ولكن على مستوى التفكير الإستراتيجي في إعادة صياغة خريطة الاقتصاد الوطني.

في تقديري الشخصي، المشروع القومي المتكامل للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ليس مجرد مجموعة من الموانئ والمناطق الصناعية، بل هو تجسيد لفلسفة جديدة في التفكير الاقتصادي تنطلق من إدراك مصر العميق لأهمية موقعها الجغرافي كممر عالمي للتجارة، ولقدرتها - إذا أحسنت التخطيط - على التحول من مجرد نقطة عبور، إلى مركز إنتاج وتوزيع ولوجستيات على مستوى القارات.

اللافت للنظر أن هذه المنطقة لم تُنشأ كامتداد تقليدي لمدن قائمة أو كاستثمار عقاري مغلّف بشعارات اقتصادية، بل جاءت وليدة إستراتيجية واضحة المعالم، محكومة بإطار زمني للتنفيذ، وخريطة استثمارية تضع على الطاولة قطاعات مستهدفة بعناية، منها الصناعات الثقيلة، والطاقة، والغزل والنسيج، والصناعات الدوائية، والتكنولوجية، والخدمات اللوجستية، وهو ما يدل بوضوح على أن الدولة - ولأول مرة منذ عقود - تُمسك بمفاتيح النمو من باب التخطيط بعيد المدى.

ولأننا تعودنا على أن نقيم المشروعات من خلال آثارها المباشرة، فإنني أؤمن بأن الأثر غير المباشر للمنطقة الاقتصادية هو الأهم، لأنها تقدم نموذجًا مختلفًا في إدارة الأصول الوطنية، وتفتح الباب لتطبيق ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد المستقبل"، حيث يتكامل التصنيع مع التكنولوجيا، وتُبنى الموانئ لخدمة خطوط التجارة العابرة للقارات، وتُدار المناطق الصناعية بعقلية تنافسية تستند إلى أفضل الممارسات العالمية.

وأقول بكل وضوح، إن أحد أنجح ما في هذا المشروع، هو المرونة التي تم بها تعديل السياسات الاستثمارية فيه، واستيعاب متغيرات السوق العالمية، وهو ما جعل المنطقة تجذب – بشهادة المؤسسات الدولية – عشرات الشركات الكبرى من دول متعددة، وعلى رأسها الصين، التي رأت في المنطقة فرصة ثمينة لنقل صناعاتها إلى بوابة إفريقيا، بعيدًا عن توتر العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة.

ولعل الاتفاقيات الأخيرة التي تم توقيعها خلال عام 2024 وحده، والتي بلغت قيمتها أكثر من 12 مليار دولار، تمثل شاهدًا حيًا على حجم الثقة الدولية في بيئة العمل داخل هذه المنطقة.

المتأمل في التجربة سيدرك أن النجاح لم يأتِ مصادفة، بل كان حصيلة رؤية إستراتيجية بدأت من أعلى مستوى في الدولة، وتُرجمت إلى خطط عمل واقعية، يتابع تنفيذها جهاز إداري محترف، يمتلك الصلاحيات ويتحمل المسؤوليات.

والجميل أن الدولة لم تتعامل مع المشروع باعتباره "منطقة معزولة" بل سعت إلى ربطه بمحاور التنمية الأخرى، سواء عبر مشروعات الطرق العملاقة، أو عبر خطوط السكك الحديدية، أو حتى من خلال إنشاء المجمعات السكنية والمدن الذكية التي تخدم هذا الامتداد الاقتصادي.

قد يقول قائل إن جذب الاستثمارات ليس كافيًا ما لم ينعكس على المواطن، وهنا أود أن أشير إلى نقطة شديدة الأهمية، هي أن المنطقة الاقتصادية ساهمت – بشكل مباشر وغير مباشر – في خلق عشرات الآلاف من فرص العمل، سواء من خلال المصانع المقامة داخلها، أو عبر سلاسل الإمداد والخدمات المرتبطة بها.

كما أن هذه المنطقة أصبحت واحدة من أهم مصادر العملة الصعبة عبر صادراتها التي تنمو عامًا بعد عام، فضلًا عن تخفيض فاتورة الاستيراد في بعض القطاعات الحيوية.

ومن الأمور التي تستحق التقدير أن المشروع يُدار اليوم بمنطق الشراكة وليس الوصاية، فالدولة تفتح المجال للشركات الكبرى للدخول بمشروعات ذات جدوى اقتصادية، وتقدم حوافز وتيسيرات غير مسبوقة، ولكن دون التفريط في السيادة أو القواعد المنظمة.

وهناك فرق كبير بين تشجيع الاستثمار، والتنازل عن مقومات الدولة. والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس تقدم نموذجًا واضحًا في هذا التوازن الصعب.

الواقع يقول إن المشروع يسير على قدمين: الأولى هي الموانئ العملاقة التي يتم تطويرها لتكون الأكثر حداثة وكفاءة في المنطقة، والثانية هي المناطق الصناعية التي تُبنى على أعلى مستوى، وتتسع لاحتضان كل ما يرتبط بالمستقبل: من الصناعات التكنولوجية، إلى الطاقة المتجددة، إلى الصناعات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. وهنا، تحديدًا، يكمن جوهر المشروع: تحويل مصر من دولة "مستهلكة" للتقنيات، إلى دولة "مُنتجة" قادرة على المنافسة.

كما أن حجم التنوع في المشروعات المقامة داخل هذه المنطقة يجعلها لا تتأثر سلبًا بأي أزمة عالمية في قطاع واحد، وهو ما يمنح المشروع قوة وصلابة اقتصادية.

فحين تتراجع التجارة العالمية، تجد الصناعات الغذائية والطبية طريقها للنمو، وحين تتأثر الطاقة التقليدية، يفتح الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة آفاقًا جديدة، وهو ما يضمن استمرار تدفق العوائد، ويوفر حماية نسبية ضد تقلبات الأسواق.

أنا لا أكتب من منطلق التفاؤل الساذج أو الانحياز العاطفي، بل أكتب من منطلق شخص راقب المشروع منذ أن كان فكرة، ورأى كيف تحوّل الحلم إلى بنية تحتية حقيقية، وشبكة طرق حديثة، وخطوط سكك حديد تصل البحرين الأحمر والمتوسط، ومناطق صناعية مكتملة الخدمات، وعقود شراكة مع كبرى الشركات العالمية في الطاقة والبتروكيماويات والصناعات التحويلية.

هذا التحوّل لم يكن ليحدث إلا بإرادة سياسية واعية، تعرف كيف تدير الأصول وكيف تعيد توجيه دفة الاقتصاد.

ما يضاعف من أهمية المشروع في هذا التوقيت، أنه يتزامن مع مرحلة تحول عالمي في سلاسل الإمداد والتوريد، ويضع مصر في موضع إستراتيجي كبديل موثوق للدول التي تعاني من توترات سياسية أو بعد جغرافي أو حتى اختناقات لوجستية.

العالم يبحث الآن عن بدائل، والمنطقة الاقتصادية تقدم نفسها كخيار مثالي على كل المستويات: الجغرافيا، الاستقرار، الكفاءة، والبنية التحتية.

نحن أمام مشروع لا يقل في أهميته الإستراتيجية عن قناة السويس نفسها.

وإذا كانت القناة قد وُجدت في القرن التاسع عشر لتربط بين بحرين، فإن المنطقة الاقتصادية وُجدت في القرن الحادي والعشرين لتربط بين عالمين: عالم التجارة وعالم التصنيع، ولتحول مصر من مجرد ممر، إلى محطة إنتاج رئيسية في سلاسل الإمداد العالمية.

أعرف أن الطريق لا يزال طويلًا، وأن التحديات قائمة، ولكن المؤشرات تقول إننا على المسار الصحيح.

التحدي الآن هو الاستمرار بنفس الروح، ومواصلة العمل بنفس الشغف، والحفاظ على معدلات الإنجاز، وتوسيع الشراكات الدولية، وربما – وهذا الأهم – أن نحول هذا النموذج إلى مرجعية يتم تكرارها في مناطق أخرى من الجمهورية الجديدة.

في النهاية، يمكنني القول إن الرهان على المنطقة الاقتصادية لم يكن رهانًا على مكان، بل كان رهانًا على عقل الدولة المصرية، وعلى قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة، وتحويل الأفكار الكبرى إلى واقع ملموس.

وهو رهان، في تقديري، قد كسبناه بجدارة.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 413 الصادر بتاريخ 22 مايو 2025

 

تم نسخ الرابط