الجمعة 11 يوليو 2025
الشورى
رئيس مجلسى الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة
رئيس مجلسى
الإدارة و التحرير
محمود الشويخ
رئيس مجلس الأمناء
والعضو المنتدب
محمد فودة

عودة الروح لصناعة الغزل والنسيج

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- "مصر تنسج مستقبلها من خيوط الحلم"

- أكثر من 56 مليار جنيه لتطوير القطاع.. ومشروعات عملاقة في المحلة وكفر الدوار ودمياط

- نقل تكنولوجيا صناعة الغزل من سويسرا إلى مصر بنموذج دولي يُحتذى

- استيراد تقني واعٍ يهدف إلى تطوير جودة الإنتاج ومهارات العمال

- توسّع زراعة القطن قصير التيلة كركيزة لتأمين المادة الخام محليًا

- البعد الإنساني في مشروع إحياء الغزل والنسيج: بناء الإنسان قبل الآلة

- الغزل والنسيج ليس مجرد قطاع اقتصادي بل قضية هوية ومكانة

- ما بدأ اليوم هو فقط أول الغزل في نسيج المجد.. والإنتاج رمز للكرامة والكفاح والانتماء

كنت وما زلت أؤمن بأن الصناعة في جوهرها ليست مجرد آلات تدور أو خطوط إنتاج تملأ القاعات، بل هي ملامح وطن تنبض بالحياة.

الصناعة هي الدفء الذي يدخل بيوت الناس البسطاء، والكرامة التي ترافق العامل حين يخرج كل صباح إلى مصنعه، والحلم الذي يُترجم إلى حياة مستقرة وآمنة.

من هنا، لا يمكن اعتبار ما يحدث اليوم في قطاع الغزل والنسيج مجرد خبر اقتصادي، أو مشروع تنموي عابر، بل هو استعادة لجزء من الذاكرة الوطنية، وإعادة ترميم لركن من أركان هوية مصر الحقيقية.

حين تراجعت صناعة الغزل والنسيج في السنوات الماضية، لم يكن التراجع فنيًا فقط، بل كان وجعًا اجتماعيًا أصاب قلب الطبقة العاملة، وألقى بظلاله على مئات الآلاف من البيوت المصرية. كانت أصوات الماكينات قد خفتت، وانقطعت روائح القطن من الشوارع، وتوقفت الحياة في مدن كاملة نشأت حول هذه الصناعة.

كان المشهد مؤلمًا، ليس لأن المصانع أُغلقت فحسب، بل لأن الأمل في الغد تراجع، والإحساس بالقيمة لدى الإنسان البسيط بدأ يتآكل.

واليوم، حين تبدأ الدولة ضخ استثمارات ضخمة لإحياء هذه الصناعة، وتعلن رسميًا أن عام 2025 هو "عام صناعة الغزل والنسيج"، فنحن أمام لحظة استثنائية يجب أن نتوقف أمامها طويلًا.

لحظة استعادة الثقة في الذات، واسترجاع القدرة على المنافسة، وإعادة صياغة العلاقة بين العامل والمصنع، بين المواطن والدولة.

المؤشرات واضحة، والأرقام ناطقة: أكثر من 56 مليار جنيه تم ضخها في مشروعات تطوير صناعة الغزل والنسيج.

مصنع المحلة الكبرى يُوشك أن يكون أكبر مصنع للغزل في العالم، بينما مجمع كفر الدوار الصناعي يعيد الحياة لمنطقة كانت شاهدة على تاريخ طويل من الإنتاج والانتماء.

وفي دمياط، ينطلق أول مصنع جينز بتكنولوجيا سويسرية فائقة الدقة، بطاقة إنتاجية تصل إلى 32 مليون متر سنويًا.

ما يحدث ليس إنجازًا إداريًا فحسب، بل هو عودة للحياة في أبسط معانيها.

أكاد أرى العامل وهو يعبر بوابة المصنع، يحمل حقيبته البسيطة، وعلى وجهه علامات الشوق إلى الماكينات، وإلى الزملاء الذين افترق عنهم لسنوات.

أسمعه وهو يحكي لابنه في المساء أنه عاد للعمل، وأن الدار عادت تنبض.

وأرى تلك الأم التي كانت تخيط في البيت لتُكمل مصاريف المدرسة، وهي تستعيد دورها في المصنع، فتبتسم الحياة من جديد في عينيها.

ليست المصانع وحدها من عادت، بل الروح المصرية التي تُجيد التحمل، وتُجيد أيضًا النهوض.

فالمجتمعات التي تقوم على العمل والإنتاج، تعرف كيف تحوّل الحزن إلى فرصة، والتحدي إلى قصة نجاح.

وهكذا كانت مصر دائمًا، وهكذا تعود اليوم.

وقد جاء التعاون مع الجانب السويسري في هذا التوقيت تحديدًا ليُضيف بُعدًا نوعيًا لما يجري.

فزيارة الوفد المصري إلى مصانع تصنيع ماكينات الغزل في زيورخ لم تكن مجرد زيارة ميدانية، بل كانت إعلانًا بأن مصر تسعى إلى الأفضل، وتُريد نقل التكنولوجيا بأعلى معاييرها.

حين يُشيد سفير سويسرا بهذا التعاون، فهو لا يتحدث عن مجاملة سياسية، بل عن إدراك حقيقي بأن ما يحدث في مصر يستحق أن يُدرّس كنموذج.

هذا هو الفرق بين الاستيراد العشوائي، والاستثمار الواعي.

حين نستورد ماكينات "رييتر" السويسرية، فنحن لا نشتري حديدًا، بل نُدخل إلى مصانعنا قلبًا جديدًا، يجعلها تُنتج بجودة تضاهي كبرى الشركات العالمية.

والأهم من ذلك، أننا نُدرب شبابنا، ونُعيد تأهيل عمالنا، ونبني أجيالًا قادرة على مواكبة العصر.

والصورة تكتمل حين نضيف إلى المشهد ما تقوم به الدولة من جهود موازية في الزراعة، من خلال التوسع في زراعة القطن قصير التيلة في مناطق مثل شرق العوينات.

هذه الخطوة ليست فقط لتأمين المادة الخام، بل هي تأكيد على أن ما يُبنى ليس مجهودًا جزئيًا، بل منظومة متكاملة تبدأ من الأرض وتنتهي عند التصدير.

والنتائج المتوقعة لا تقل روعة: إنتاج 188 ألف طن غزل سنويًا، و198 مليون متر نسيج، و15 ألف طن من الوبر، إلى جانب 50 مليون قطعة ملابس.

كلها أرقام تُترجم إلى أكثر من 2.5 مليار دولار سنويًا كصادرات متوقعة.

لكنها أيضًا أرقام تُترجم إلى بيوت تُفتح، ومصاريف مدارس تُدفع، وأسر تنجو من الغرق.

لكن ما يجعل هذا المشروع مميزًا بحق، هو بعده الإنساني.

نحن لا نُحيي صناعة فقط، بل نُعيد الاعتبار للإنسان المصري، للعامل الذي طالما أُهمل، وللأم التي طالما صبرت، وللشاب الذي كان يحلم بوظيفة مستقرة.

نحن لا نبني مصانع، بل نبني حياة.

وحين يُعاد فتح مصنع، فإن ذلك يعني فتح باب أمل لعشرات، وربما مئات الأسر.

هذا هو المعنى الحقيقي للتنمية: أن تصل إلى الناس، وأن تلمس بيوتهم، وأن تُعيد إليهم شعورهم بالكرامة والانتماء.

لا قيمة لأي خطة لا تُترجم إلى أثر ملموس في حياة الناس، ولا قيمة لأي إنجاز لا يشعر به المواطن البسيط في قوته اليومي.

ومن هنا، أقول وبكل وضوح: مشروع الغزل والنسيج الحالي ليس مجرد خطة اقتصادية، بل هو مشروع وطني بامتياز، يُعيد رسم ملامح مصر التي نُحب.

مصر التي تعمل، وتنتج، وتُصدّر، وتُنافس.

مصر التي تحترم عمالها، وتُكرم مزارعيها، وتُعلّم أبناءها قيمة العرق والشرف.

إن استعادة مكانتنا العالمية في هذه الصناعة العريقة لا تعني فقط أننا نصدر قماشًا، بل تعني أننا نصدر صورة جديدة عن مصر.

صورة بلد لا يعرف المستحيل، ولا يرضى بأن يكون تابعًا، ولا يقبل أن يظل خارج سباق الإنتاج.

إنها بداية جديدة، لكنها ليست النهاية.

ما زال أمامنا الكثير لننجزه، وما زالت أمامنا تحديات كثيرة يجب أن نُواجهها.

لكن ما يبعث على الطمأنينة هو أن الروح عادت، وأن الإرادة موجودة، وأن هناك قيادة تعرف قيمة الصناعة، وشعبًا يستحق كل خير.

في كل ماكينة تدور اليوم، هناك قصة كفاح.

وفي كل قطعة قماش تخرج من المصانع، هناك بصمة مصرية ناصعة.

وفي كل مصنع يُفتتح، هناك تاريخ يُستعاد، ومستقبل يُكتب، وأمل يُولد من جديد.

ولأننا نُحب هذا الوطن، ونؤمن بقدرته، ونراهن على ناسه، فإننا نعرف أن ما بدأناه اليوم، سنجنيه غدًا.

لا بالأحلام فقط، بل بالعرق، وبالإخلاص، وبالإيمان بأن مصر، كما غزلت تاريخها بخيوط الشرف، ستنسج مستقبلها بخيوط المجد.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 419 الصادر بتاريخ 10 يوليو 2025

 

 

تم نسخ الرابط