قانون العمل الجديد.. عهد إنساني يضع العامل في مكانته المستحقة

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- قانون العمل الجديد.. وداعًا لاستغلال العمال وبداية عهد العدالة

- استمارة 6 تذهب بغير رجعة: حماية العامل من الفصل التعسفي

- نسخ متعددة لعقد العمل تضمن الأمان الوظيفي للعامل وصاحب العمل

- الاستقالة لا تُقبل إلا أمام جهة رسمية.. كرامة العامل "خط أحمر"

- الضبطية القضائية لمفتشي العمل.. رقابة حقيقية لا شكلية

- المنصة الإلكترونية للعقود.. التكنولوجيا تحاصر التلاعب

- مبادرة "سلامتك تهمنا".. دروع حماية لعمال التوصيل

- التوازن بين الحقوق والواجبات.. علاقة ندية بين العامل وصاحب العمل

- القانون الجديد.. رؤية مصرية لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا

لم أكن يومًا من أولئك الذين يتوقفون أمام القوانين باعتبارها مجرد نصوص جامدة تُسطر في دفاتر الدولة، بل كنت دائمًا أرى أن أي قانون حقيقي لا يعيش إلا إذا كان قادرًا على النفاذ إلى روح الناس، وأن يشعر العامل أو الموظف أو صاحب العمل بأن القانون وُضع من أجله هو لا من أجل رفوف الأرشيف.

واليوم، ونحن أمام بداية تطبيق قانون العمل الجديد، أشعر بأننا أمام لحظة فارقة في تاريخ العلاقات العمالية في مصر، لحظة تعيد الاعتبار للإنسان العامل وتمنحه ما يستحق من كرامة وأمان وظيفي، وتدشن في الوقت ذاته علاقة أكثر عدلًا بين طرفي العملية الإنتاجية: صاحب العمل والعامل.

لقد كان مشهد الإعلان عن دخول القانون حيز التنفيذ مفعمًا بالرمزية، ليس لأنه فقط قانون جديد يصدر ضمن حزمة تشريعات متلاحقة، ولكن لأنه جاء بعد سنوات طويلة من معاناة ملايين العمال مع ثغرات تشريعية كانت تسمح بانتهاك حقوقهم تحت شعارات براقة لا تصمد أمام أول اختبار عملي.

من منا لا يعرف قصصًا مؤلمة عن عامل أُجبر على التوقيع على استمارة استقالة قبل أن يبدأ عمله، أو آخر فقد مصدر رزقه في لحظة بقرار تعسفي لا يجد أمامه إلا أن يطرق أبواب المحاكم التي تستنزف سنوات من عمره؟ هذه المشاهد كانت جزءًا من واقع مرير، لكن القانون الجديد جاء ليغلق هذا الباب نهائيًا، ويعلن أن زمن الفصل التعسفي قد ولى، وأن مصير العامل لم يعد بيد صاحب العمل، وإنما بيد قاضٍ عادل يزن الأمور بميزان القانون والحق.

في تقديري الشخصي، فإن أهم ما يميز هذا القانون ليس فقط النصوص، بل الإرادة التي وقفت وراءه.

أن يُصدر المشرّع ٨٧ قرارًا تنفيذيًا موازيًا للنصوص الرئيسية يعني أننا أمام تصميم حقيقي على ألا يكون القانون حبرًا على ورق، بل واقعًا يُلمس في حياة الناس.

ستة وستون قرارًا تصدر من وزارة العمل وحدها، والبقية موزعة بين مجلس الوزراء ووزارات أخرى، وهذا وحده دليل على أن الدولة تريد أن يكون التطبيق شاملًا، وأن جميع الجهات تتحمل مسؤوليتها في إنجاح هذه الخطوة.

اللافت للنظر أن القانون لم يكتفِ بإلغاء أدوات القهر السابقة مثل استمارة ٦، وإنما ذهب أبعد من ذلك حين فرض وجود أربع نسخ أصلية من عقد العمل، واحدة لدى وزارة العمل، وأخرى في التأمينات، وثالثة عند صاحب العمل، ورابعة لدى العامل نفسه.

وكأن المشرّع أراد أن يقول لكل عامل: أنت لست الحلقة الأضعف بعد الآن، ولن تضيع حقوقك وسط الأوراق أو في أدراج المكاتب، فكل جهة تمتلك نسخة تحميك وتضمن لك الأمان.

وإذا كان القانون قد أرسى قاعدة جديدة بأن الاستقالة لا تُقبل إلا إذا وُثقت أمام جهة رسمية، فهذا في جوهره ليس مجرد إجراء بيروقراطي، بل رسالة عميقة مفادها أن كرامة العامل لا يجوز أن تُباع أو تُشترى، وأن أي ضغط عليه لتقديم استقالته لن يكون له قيمة إلا إذا عبر بنفسه عنها بإرادة كاملة أمام سلطة محايدة.

إن هذه النقلة وحدها كفيلة بأن تضع حدًا لعقود من الممارسات غير الإنسانية التي كان فيها العامل أشبه بالرهينة في يد من يملك سلطة القرار.

القانون الجديد أيضًا لم يترك مسألة الرقابة للمصادفات، بل منح مفتشي العمل صفة الضبطية القضائية، ليصبحوا حراسًا حقيقيين لتطبيق القانون.

لم يعد التفتيش مجرد زيارة شكلية أو تقارير روتينية، بل صار أداة فاعلة تكشف التجاوزات وتردع المخالفين.

وإلى جانب ذلك، جاءت المنصة الإلكترونية التي تراقب العقود وتربطها بالواقع العملي، بحيث يُكشف أي تحايل على الفور، في زمن صارت فيه التكنولوجيا شريكًا لا غنى عنه لتحقيق العدالة.

في هذا السياق، لا يمكن أن نغفل المبادرات الإنسانية التي صاحبت تطبيق القانون، مثل مبادرة "سلامتك تهمنا" التي تهدف لحماية عمال التوصيل على الدراجات.

هؤلاء الذين كانوا يعملون في ظروف بالغة القسوة دون غطاء حقيقي أصبحوا اليوم جزءًا من الاهتمام الرسمي، حيث فُرضت أدوات السلامة وأُعطي لهم الحق في التدريب والحماية.

إن مثل هذه الخطوات لا تُقاس فقط بمدى تطبيقها، ولكن بالرسالة التي تحملها: رسالة تقول إن العامل ليس ترسًا في ماكينة بلا روح، بل إنسانا له الحق في الأمان والحياة الكريمة.

وإذا كان البعض يتساءل عن أثر القانون على أصحاب الأعمال، فأنا أرى أن الإنصاف في العلاقة لا يعني الإضرار بطرف لحساب طرف آخر، بل هو إعادة التوازن المفقود.

فالقانون أعطى لصاحب العمل أيضًا حقوقه في مواجهة التقصير والإهمال، لكنه قيد يده عن التعسف، وألزمه بأن يواجه العامل بندية أمام القضاء إذا أراد إنهاء عقده.

هذا التوازن هو الضمانة الحقيقية للاستقرار الاجتماعي، لأن علاقات العمل لا تقوم على القهر وإنما على الشراكة.

ما يستوقفني كذلك أن الدولة لم تترك العمال وحدهم يواجهون مصيرهم إذا ما نشب نزاع، بل أنشأت آلية متدرجة لحل الخلافات تبدأ بالوساطة من وزارة العمل، وإذا فشلت ينتقل الأمر إلى المحكمة العمالية.

هذا التدرج يفتح الباب أمام حلول ودية تحافظ على علاقة العمل وتجنب الجميع عناء الخصومات الطويلة، لكنه في الوقت نفسه يضع كلمة الفصل بيد القضاء إذا استحال التفاهم.

إن دخول القانون الجديد حيز التنفيذ لا يجب أن يُقرأ فقط كخطوة تشريعية، وإنما كتعبير عن رؤية أشمل للدولة المصرية في هذه المرحلة.

نحن أمام مشروع وطني كبير يسعى إلى تمكين الإنسان، سواء كان عاملًا أو موظفًا أو صاحب عمل، من حقوقه الأساسية، ويؤسس لبناء مجتمع أكثر عدالة.

وربما لهذا السبب أرى أن هذا القانون سيتحول بمرور الوقت إلى نموذج يحتذى به في المنطقة، لأنه يمزج بين الصرامة في التنفيذ والإنسانية في المضمون.

في النهاية، يمكنني القول إن هذا القانون يمثل عهدًا جديدًا يطوي صفحة قديمة من القهر والتعسف، ويفتح صفحة عنوانها الكرامة والعدالة.

قد تواجهنا صعوبات في التطبيق، وقد يحاول البعض الالتفاف على النصوص، لكن الأكيد أن الطريق قد رُسم وأن الخطوة الأولى قد أُخذت.

سيظل العامل المصري هو العمود الفقري للإنتاج والتنمية، وحمايته تعني حماية الوطن كله.

إننا أمام لحظة تاريخية تستحق أن نتوقف عندها طويلًا، لأنها ببساطة تعيد صياغة العلاقة بين العمل والإنسان في مصر على أسس أكثر إنصافًا ورحمة.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 428 الصادر بتاريخ 11 سبتمبر 2025
تم نسخ الرابط