تأتي اللحظات السياسية الفارقة عادة كاختبارات حقيقية لصلابة البنية الاجتماعية، ودرجة وعي المواطن، وقوة المؤسسات الوطنية، وقدرة الدولة على حماية قواعد العدالة وتكافؤ الفرص، وقد شكلت المرحلة الأولى من العملية الانتخابية الأخيرة في مصر مناسبة مهمة لكشف نضج الوعي السياسي للمجتمع، ومدى استعداده للدفاع عن قيمه الكبرى، وفي مقدمتها النزاهة، والمساواة، ورفض الأساليب غير القويمة التي قد تمس سلامة المناخ السياسي أو تنال من الصحة المجتمعية بشقيها المادي والمعنوي.

وشكلت مواقع الميديا، وعلى رأسها منصات التواصل الاجتماعي ودوائر النقاش العام، دورًا فاعلًا في إيصال رسالة واضحة تعكس اتجاهات الرأي العام، وتوضح الموقف الجمعي تجاه بعض الممارسات التي رصدت خلال المرحلة الأولى من الانتخابات، ومن خلال هذا التعبير العلني، أمكن الحصول على قراءة دقيقة لقدرة الشعب المصري على رفض أي أداء ينحرف عن القيم الأساسية للعمل السياسي، وفي مقدمتها الشفافية واحترام إرادة الناخبين، وقد تحولت وسائل الاتصال المعاصرة بفعل ذلك إلى فضاءات لإنتاج الوعي السياسي، وإلى منصات يمارس فيها المواطنون دورهم الطبيعي في الرقابة الشعبية والمساءلة المجتمعية، كما ساهم هذا الانفتاح في رفع مستوى الحساسية المجتمعية تجاه أي سلوك يخرج عن إطار السياسة الرشيدة، سواء عبر مظاهر التضليل، أو محاولات شراء الأصوات، أو أي تدخلات تمس نزاهة العملية الانتخابية.

ولفتت هذه الأصوات الجماهيرية الانتباه إلى بعض التصرفات غير السوية التي تم رصدها ميدانيًا خلال المرحلة الأولى من الانتخابات، وهو ما يعكس ارتفاع مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين وقدرتهم على ممارسة رقابة جماعية علنية تسهم في تعزيز قواعد الشفافية، وما يميز هذه الردود الشعبية هو التزامها بالسلمية والمسؤولية، دون الانزلاق إلى خطاب فوضوي أو انفعالي، مما يدل على عمق التماسك الاجتماعي وروح المواطنة الفاعلة، ويؤكد قدرة المجتمع على حماية نزاهة العملية الانتخابية وممارستها وفق المعايير الديمقراطية السليمة.

ولقد استجابت القيادة السياسية لنبض الشعب، حيث أضاءت رسالة الرئيس عبر حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي جانبًا رئيسيا، من فلسفة الحكم في الجمهورية الجديدة، القائمة على المصارحة، والشفافية، وحماية قواعد العدل والمساواة، وقد جاء التدخل الرئاسي في توقيته المناسب ليؤكد أن بناء الدولة لا يقوم على التزييف أو تجميل الواقع، ولحكن على مواجهة أي قصور أو تجاوزات بشجاعة ومسؤولية.

ولم تكن الرسالة مجرد تعليق سياسي عابر، بل ترجمة لمبدأ المسؤولية الحاكمة التي تربط الرئيس بنبض شعبه، حيث وجهت الرسالة الضوء مباشرة نحو الهيئة الوطنية للانتخابات، باعتبارها المؤسسة المكلفة بحماية السيادة الشعبية وحماية إرادة الناخبين، ويعكس هذا التوجيه احترامًا راسخًا لفكرة الفصل بين السلطات، ويعزز من قدرة المؤسسات على ممارسة مهامها بكفاءة ومهنية، بما يضمن ضبط العملية الانتخابية واستقامتها وفق أسس العدالة والنزاهة.

وتؤشر هذه الاستجابة السريعة إلى أن التطور السياسي في مصر يرتكز على منظومة قيمية متجددة تتجاوز الشكل التقليدي للسلطة، نحو صيغة أكثر نضجًا تقوم على التفاعل الدينامي بين القيادة والرأي العام، ويعكس هذا النمط من الحوكمة رؤية حديثة للعلاقة بين الدولة والمواطن، تقوم على الشراكة والمسؤولية المتبادلة، ويعزز الثقة المجتمعية في المؤسسات، ويكسب العملية السياسية مصداقية أكبر، مع ترسيخ ثقافة الحوار والمساءلة ضمن إطار من الانضباط المؤسسي واحترام القانون.

ويتمسك المجتمع المصري بحساسيته العالية تجاه أي ممارسات تمس منظومة القيم المشتركة، وقد تجلت هذه الحساسية بوضوح في رفضه القاطع لكل صور الفساد السياسي، والمحسوبية، ومحاولات تزييف الإرادة الشعبية، وما أثار حفيظة الرأي العام التهديد المباشر للديمقراطية وسيلة بناء الأوطان، فالمصريون نظرًا لتراكم خبراتهم التاريخية والاجتماعية، يدركون أن الديمقراطية بلا نزاهة ما هي إلا لافتة شكلية، وأن المؤسسات التشريعية لا يمكن أن تنهض بأدوارها عبر ممارسات غير مشروعة أو آليات تفتقر إلى الشفافية، ومن ثم جاءت ردود الفعل المجتمعية متسقة مع الموروث الأخلاقي الرافض للكذب والزيف، ورافضة أي مسارات خادعة للوصول إلى المناصب العامة، معبرة بذلك عن وعي راسخ بالديمقراطية وأهمية الالتزام بالقيم والمبادئ الوطنية.

وأكدت رسالة الرئيس على هذا التوجه الشعبي، مشددة على ضرورة أن تضطلع المؤسسات الوطنية بدورها على نحو يضمن الشفافية والمسؤولية، ويستجيب لتطلعات المواطنين واحتياجاتهم، وتعد هذه الرؤية إطارًا أخلاقيًا يعكس مبادئ الجمهورية الجديدة القائمة على العدل والمحاسبة، ويكشف تفاعل القيادة مع الرأي العام في لحظة الأزمة كنموذج متقدم لإدارة الشأن العام، فبدلاً من احتكار المعرفة أو الانغلاق المؤسسي، أكدت القيادة السياسية أن صوت المواطن جزء أصيل من الرقابة الوطنية، وأن الرأي العام شريك فعلي في عملية صنع القرار، ما يعكس العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة والمساءلة والالتزام بالقيم المؤسسية.

وأوجد هذا التكامل حالة من الانسجام المعرفي والسياسي بين القيادة والمجتمع، وأسهم بفاعلية في تحريك منظومة العمل المؤسسي نحو مراجعة التجارب السابقة، وتصحيح المسار، وضمان إعادة العملية الانتخابية إلى مسارها الصحيح، ويعد هذا التطور مؤشرًا جليًا على انتصار دولة القانون، وتفعيل مبادئ المحاسبة، وترسيخ ثقافة الشفافية، ورفض كل أشكال الفساد السياسي، مع تعزيز مشاركة المواطنين في حماية المجال العام وصون حقوقهم، وبالتالي تتحول الجمهورية الجديدة إلى مشروع تشاركي حقيقي، يرتكز على التفاعل المتبادل بين الدولة والمواطن، بعيدًا عن أي إدارة فوقية مجردة، ليصبح المواطن حارس للنظام الديمقراطي وشريكًا أصيلًا في صياغة مسار الدولة وبناء مستقبلها.

وتشير القراءة المتعمقة للخطاب السياسي والمجتمعي خلال الأزمة إلى أن الاستجابة السريعة، على مستوى الرأي العام ومؤسسة الرئاسة، لها دورًا محوريًا في حماية النسيج الوطني من أي محاولات لإحداث شرخ أو استغلال التجاوزات لإثارة الفتن، أو إيجاد حالة من الاستقطاب، أو تمرير خطاب طائفي أو فوضوي، لقد أجهض التوجيه الرئاسي الحازم، مقرونًا بالحكمة الجماهيرية، هذه الفرص، مؤكدًا أن الدولة بمؤسساتها وشعبها لن تنزلق إلى مسارات الفتن والتفرق.

ومن ثم تتجلى أهمية الأمن المجتمعي القائم على إدراك المواطنين لقيمة السلم المجتمعي، وحرص الدولة على عدم توظيف الملفات الداخلية لإثارة الخلاف، ورفض الشعب لأي محاولات خارجية لتفكيك بنيته الاجتماعية، كما يعكس ذلك وعي القيادة بأولوية الوحدة الوطنية على أي اعتبارات سياسية آنية، وقد أسهم هذا التناغم بين القيادة والشعب في تعزيز صلابة الجبهة الداخلية، وترسيخ مناعة المجتمع ضد محاولات الاختراق الخارجي أو التلاعب بالوعي الجمعي.

ويعد من أهم التحولات التي كشفتها الأزمة أن القيادة السياسية لم تتردد في إعلان الحقائق والاعتراف بأي قصور عند الحاجة، وهذه الثقافة السياسية المبنية على البيان الواضح واللغة الصريحة تعد من أهم مكتسبات الجمهورية الجديدة، فالإقرار بوجود مشكلات مصدر قوة يمكن الدولة من تصحيح المسار، ويتيح للمجتمع ممارسة الرقابة السياسية بشكل واعٍ ومسؤول، وإن اعتراف القيادة بضرورة المراجعة، وتوجيهها للمؤسسات بتحمل مسؤولياتها، يؤكد انتقال مصر من مرحلة الإدارة بالخطاب إلى الإدارة بالمكاشفة والشفافية.

وليس من قبيل المبالغة القول إن ما حدث خلال المرحلة الأولى من الانتخابات كان لحظة اختبار كشفت قوة المجتمع، وصواب القيادة، وقوة المؤسسات، فلقد أسهم التفاعل المتبادل بين الرئيس والرأي العام في إعادة العملية السياسية إلى مسارها الصحيح، وتعزيز مبادئ النزاهة والمساءلة، كما ساعدت هذه اللحظة على تثبيت قواعد الجمهورية الجديدة، القائمة على بناء مؤسسات قوية وفاعلة، واحترام صوت المواطن، ورفض الفساد والمحسوبية، وتعزيز الوعي السياسي وحماية السلم الأهلي، وترسيخ العلاقة العضوية بين الدولة وشعبها، وهكذا تمضي مصر نحو مستقبل سياسي أكثر رسوخًا واستقرارًا، مستندة إلى وعي شعبها، وصدق قيادتها، وصلابة مؤسساتها، وإيمانها بأن طريق البناء يستكمل بالعدل والمساواة والشفافية.

ودامت مصر آمنة مزدهرة بسواعد أبنائها المخلصين، وقيادة حكيمة راشدة تهتدي بالبصيرة، وتهدي الأمل لشعبها، وتحمي الوطن بالعدل والحكمة، نحو أفق مجده الدائم .

تم نسخ الرابط