خداع البشر.. سم قاتل ينسف الثقة ويدمر العلاقات

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- الوجوه المزيفة لا تعرف الوفاء وليس لها مبدأ

- الصدق عملة نادرة في أسواق الزيف المفتوحة

- خداع الأشخاص خيانة عظمى لا يغفرها الزمن

- القلوب الطيبة لا تخون ولكن دائما تدفع الثمن

- الثقة لا تُمنح مرتين لمن خانها أول مرة

حين تقسو الحياة لا يكون أقساها ضيق الرزق أو صعوبة الطريق، بل ذلك الخذلان الذي يأتيك من أقرب الناس، من وجوه ظننتها صادقة، ومن كلمات بدت حانية، لكنها كانت تخفي وراءها نوايا ملوثة، لا شيء يوجع القلب مثل أن تكتشف أن من منحته ثقتك كان يرتدي قناعا، وأن دفء العلاقة لم يكن سوى ستار زائف لخداع مدبر، إنني لا أكتب عن الخداع كفكرة، بل كتجربة جعلتني أكثر وعيا بأن العالم مليء بالوجوه التي لا تشبه أصحابها.

وللحق فقد اكتشفت أنه لا شيء في هذه الحياة ينهك القلب كما تفعل خيبات البشر، فنحن لا نرهق من الزحام، ولا تهزمنا الطرقات الطويلة، بل يؤلمنا ذلك الثقل الخفي الذي يلقى على أرواحنا من خذلان من ظنناهم وطنا، واكتشفناهم قناعا.

لطالما ظننت أن صفاء النوايا يكافأ بصفاء القلوب، وأن من يمنح الصدق لا يُقابل بالخداع، حتى أهدتني الحياة دروسها القاسية، على يد أولئك الذين يجيدون ارتداء الأقنعة، والتفنن في التمثيل داخل مسرح الحياة، لم يكن الخداع يوما في الكلمات فقط، بل في المواقف التي تكشف معادن الناس، وتسقط الأقنعة واحدًا تلو الآخر، حتى لا يبقى سوى وجه الحقيقة المجرد من الزيف.

إن الوجوه المزيفة لا تنكشف بالصوت المرتفع ولا بالجدال، بل في لحظات الصمت، في الشدائد، في المواقف التي تحتاج إلى الظهر المسنود، والنية الطيبة، عندها فقط ترى من الذي كان يتظاهر، ومن الذي كان صادقًا رغم الغياب.

ما أقسى أن تمنح الثقة كاملة، وتكتشف أن من أعطيتها له، كان يرى في صدقك فرصة، وفي ضعفك غنيمة، وفي قربك مصلحة.

وما أقسى أن تتظاهر بأنك لم تُخدع، وتبتسم وأنت تداري كسرة القلب خلف الكبرياء.

لقد علمتني التجربة أن لا أفتن بالملامح الباسمة، فكم من وجه هادئ أخفى خلفه ضجيج نوايا سيئة، وألا أركن إلى الكلمات، فكم من حديث معسول يحمل خلفه مرارة النفاق، فالثقة عملة ثمينة، لا تمنح إلا بعد اختبارات الزمن، والقلوب لا تفتح إلا لمن أثبتوا أنهم لا يتسللون إليها خلسة.

ومع كل ما سبق، لا أندم على صدقي، ولا أُعاتب قلبي على حسن نيته، فالخداع عيب فيمن يتقنه، لا فيمن تعرض له، والوجوه المزيفة ستظل تتكسر أمام الضوء، مهما طال الليل، إنني دائما أقول: قد نتألم من خذلان الناس، لكننا لا نفقد إيماننا بالخير، فقط نُعيد ترتيب المسافات، ونغلق أبوابنا جيدًا، لأن بعض الوجوه لا تستحق إلا أن تنسى. 

والحق يقال إن الزيف لا يعيش طويلًا، وإن طال تزيينه بالكلمات والتصرفات المموهة، ففي نهاية الطريق، تنكشف الأقنعة حين يطلب من صاحبها موقف حقيقي أو وقوف نبيل، الوجه المزيف قد يجيد التمثيل وقت الرخاء، لكنه لا يجيد الصمود وقت العاصفة.

ومن هنا، نُدرك أن الأزمات ليست دائمًا لعنتنا، بل هي غالبًا امتحان لقلوب المحيطين بنا.

وإذا دققنا النظر سنرى أن إحدى كبرى الخسارات أن تمنح جزءا منك لمن لا يرى قيمته، فهناك من يتغذى على طيبتك ليستغلها، لا ليقدرها، وهناك من يرى في عطائك ضعفًا، لا أصالة، لا يجب أن تنفق طاقتك النفسية في محاولات إثبات ذاتك أمام من يرتدون أقنعة التجاهل والتصنع، فالحياة قصيرة، والمشاعر أثمن من أن تبدد في ساحة الوهم، وحين تنكشف الأقنعة، يسقط معها شيء من الإيمان بالبشر، لكن لا تدع ذلك يُفسد نقاءك، لا تندم على حسن ظنك، ولا تجلد نفسك على طيبتك، فالخداع لا يدين ضحيته، بل يفضح فاعله، لا تقسو على نفسك لأنك أحببت بصدق، أو منحت بثقة، فكل تجربة تقوينا، وتعلمنا كيف نصون مشاعرنا دون أن نفقد إنسانيتنا، أما حين يثبت البعض أنهم لا يستحقون مكانهم في قلبك، فلا تتردد في ترك المسافة تعمل عملها، المسافة ليست قسوة، بل وعيا، وليست هروبا، بل حماية للنفس، فهناك من لا يجيد البقاء دون تلون، ومن لا يعرف الصدق دون مصلحة، هؤلاء لا يواجهون باللوم، بل بالغياب، والغياب الهادئ هو أبلغ رد على الوجوه التي خذلتك عمدا، وللحق بات خداع البشر واقعا يوميّا نتعثر به في تفاصيل حياتنا، نمنح الثقة ببراءة، ونسرف في العطاء بنية خالصة، ثم نفاجأ بأن خلف بعض الوجوه أقنعة مصقولة بالأنانية والمصلحة، لم يعد الزيف أمرا طارئا، بل صار سلوكا يتقنه الكثيرون، ويتخفون خلفه بإتقان، والمؤلم في كل ذلك، ليس الخداع ذاته، بل صدمة الاكتشاف بعد أن نكون قد فتحنا أبواب أرواحنا لمن لا يستحق.

نحن نمضي في هذه الحياة، نتعلم من كل تجربة، وننضج مع كل خيبة،  لم يعد يؤلمنا الخداع بقدر ما يرهقنا اضطرارنا إلى التظاهر بعدم الشعور به، لقد أدركنا أن الصدق في هذا الزمن صار ندرة، وأن النقاء بات عبئا على أصحابه في عالم تمجد فيه الأقنعة وتكافأ فيه الوجوه المزيفة، ومع ذلك، لا نبدل طبيعتنا، ولا نغير مبادئنا، لأننا نؤمن بأن النور لا يفقد قيمته حين يحيط به الظلام، بل يزداد سطوعا.

سنظل نختار الصدق، لا لضعف فينا، بل لقوة داخلية ترفض أن تشبه هذا الزيف المتفشي، وسنظل نغلق أبوابنا في وجه المزيفين، لا كراهية،  بل حفاظا على ما تبقى فينا من سلام، فالإنسان لا يقاس بما يملكه من أقنعة، بل بما يبقيه صادقا في زمن الكذب، وتلك معركتنا اليومية التي نخوضها بصمت وكبرياء.

الصفحة السابعة من العدد رقم 441 الصادر بتاريخ  4 ديسمبر 2025

 

تم نسخ الرابط