أهل سلام لمن أراده .. كيف يحمي سلاح القوة والردع سلام الشجعان؟

محمود الشويخ - صورة
محمود الشويخ - صورة أرشيفية

- لماذا أشعل معرض الصناعات الدفاعية الرعب في قلوب الإسرائيليين؟ 

لم تكن القاهرة يومًا بحاجة إلى أن ترفع صوتها لتُسمِع العالم، فمصر حين تتحرك تهتز الجغرافيا، وحين تعلن عن نفسها قوةً فالحقيقة وحدها تكفي لكي يفهم الجميع الرسالة.

لكن ما جرى خلال الأسابيع الماضية لم يكن مجرد عرض عسكري تقليدي أو معرض دفاعي روتيني، بل كان «إعلان وجود» يليق بدولة تعرف قدر نفسها، وتعرف كيف تفرض احترامها.

لقد خرجت مصر إلى العالم قائلة: لا تقربوا  من مصر فتحرقكم النار، لا تهديدًا ولا استعراضًا، بل تأكيدًا أن قوة الردع التي تملكها اليوم ليست للاعتداء، بل لصناعة سلام الشجعان؛ ذاك السلام الذي لا يتحقق إلا حين تكون الكفة متوازنة والسيف في غمده ولكن حاضِرًا متأهبًا.

لم تكن الرسالة موجهة إلى الداخل فحسب، بل كانت إلى كل من يحاول اختبار صبر الدولة أو قراءة خطواتها بشكل خاطئ، فالحفاظ على الأمن لم يعد مجرد نشر قوات أو امتلاك منظومات دفاعية، بل هو منظومة كاملة من الردع تبدأ بالاقتصاد وتنتهي بالقدرة على توجيه ضربة لا تشتهيها أي قوة إقليمية أو دولية.

وهذا تحديدًا ما ظهر جليًا في معرض الصناعات الدفاعية الأخير، الذي لم يكن مناسبة للترويج أو الدعاية بقدر ما كان منصة تكشف للمرة الأولى جزءًا من أسرار الترسانة السرية المصرية؛ تلك الترسانة التي طالما تساءل عنها خصوم مصر، والتي أصبحت اليوم حاضرة علنًا، تفرض معادلة جديدة لا يمكن تجاهلها.

لقد أدرك الجميع أن مصر لم تعد مستهلكًا للسلاح فقط، بل أصبحت مصدرًا له، وأن مصانعها العسكرية لم تعد مجرد خطوط إنتاج تقليدية، بل منظومات متكاملة تنتج مدرعات وقاذفات وطائرات مُسيَّرة بأسعار تنافسية، وبقدرات قادرة على إعادة رسم التوازن في أي صراع محتمل.

وحين تخرج مصر بهذا الكم من التطوير المحلي، فهذه ليست رسالة تقنية، بل رسالة سياسية من العيار الثقيل: الدولة التي تستطيع تصنيع نصف منظومتها الدفاعية، تستطيع أن تحمي نفسها دون انتظار أحد.

لكن لماذا أصاب هذا المعرض تحديدًا إسرائيل بالذعر؟

السبب ليس قطعة سلاح محددة، بل المشهد الكامل.

إسرائيل، التي اعتادت أن تراقب تحركات جيوش المنطقة بعين القلق، وجدت نفسها أمام دولة كبرى تتحرك بثقة، وتعرض تقنيات جديدة، وتكشف عن جاهزية عالية لا تتناسب مع ما يحب الإسرائيليون تصديقه.

إن ظهور مدرعات مصرية مطوّرة، وطائرات مُسيَّرة ذات مديات طويلة، ومنظومات تشويش وحرب إلكترونية بتوقيع «صُنع في مصر»، جعل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تُعيد حساباتها، فالقوة التي كانت في نظرهم منشغلة بالاقتصاد أو السياسة، أثبتت أن جيشها في حالة تحديث مستمر، وأنها مستعدة لكل الاحتمالات، مهما حاولت تل أبيب إشاعة العكس.

وهنا بالتحديد يظهر مفهوم سلاح الردع المصرى.

الردع ليس تفوقًا عدديًا، ولا حتى امتلاكًا لسلاح نوعي بعينه؛ الردع هو أن يعرف خصمك أنك قادر على إيلامِه، وأن ثمن الاعتداء عليك لن يكون محتملًا أو قابلًا للتحمل سياسيًا أو عسكريًا.

وهذا ما بدا واضحًا في الرسائل غير المباشرة التي حملها المعرض.

فقد مرّت إسرائيل بعام هو الأصعب في تاريخها منذ عقود، بينما كانت مصر تعزز قوتها الجوية، وتكشف عن تطويرات غير مسبوقة في قواتها البرية، وتعرض قدرات جديدة على تصنيع الذخائر والصواريخ القصيرة ومتوسطة المدى.

وهذا كفيل وحده بأن يُفقد القيادة الإسرائيلية صوابها، لأن ميزان القوى الذي اعتادت أن تراه ثابتًا لم يعد كما كان.

لقد باتت مصر اليوم قوة عسكرية كبرى، ليس لأنها تقول ذلك، بل لأن الأرقام والوقائع والشهادات الدولية تؤكد أنها واحدة من أكبر عشرة جيوش بالعالم من حيث القدرات والانتشار والكفاءة القتالية.

وتاريخيًا، مصر حين تقوى لا تهدد أحدًا، لكنها تجعل كل من يفكر في اختبارها يعيد التفكير.

إن الجغرافيا نفسها تتغير عندما تصبح قوة مركزية في المنطقة بهذا الحجم، وهذا ما يدركه الجميع: عربًا، وخصومًا، وحلفاء.

واللافت أن ما ظهر في المعرض ليس سوى جزء محدود من القدرات المصرية الفعلية.

فهناك ملفات كاملة لا يُسمح بالكشف عنها، وفيها ما يكفي ليجعل بعض العواصم الإقليمية متوترة.

فعلى سبيل المثال، تحدث خبراء دوليون عن أن مصر تمتلك برنامجًا متقدمًا للغاية للطائرات المُسيَّرة، بعضها محلي بالكامل، وبعضها يتم تطويره بالشراكة مع دول تمتلك خبرات راسخة.

كما تحدثت تقارير أخرى عن منظومات رادارية محلية قادرة على مراقبة مساحات شاسعة من المجال الجوى، وهي منظومات لا تُعلن مصر رسميًا عن تفاصيلها، لكنها تظهر بين الحين والآخر في تدريبات مشتركة أو مناورات إستراتيجية.

وهناك أيضًا برنامج تطوير الدبابات والمدرعات، وهو أحد أكثر البرامج غموضًا.

فبينما يعرف العالم أن مصر تمتلك مصانع ضخمة لإنتاج الدبابات M1A1، فإن تطويرها لمنظومات جديدة محلية بالكامل يكاد يكون مجهول التفاصيل.

وقد لمح مسؤولون سابقون إلى أن هناك أجيالًا جديدة من المدرعات المصرية لا يعرف عنها أحد شيئًا، وأن هذه المدرعات تُصمم في الأساس للبيئة الصحراوية وسيناريوهات القتال الحقيقية، وليس لمهام العرض أو الدفاع الساكن.

أما «الترسانة السرية» التي يتحدث عنها المحللون الدوليون، فهي تلك التي تشمل مشاريع الصواريخ، والحرب الإلكترونية، ونظم الدفاع الجوي قصيرة ومتوسطة المدى المصنعة محليًا.

ولا أحد يعلم على وجه اليقين حجم التطوير الحالي، لكن ظهور نماذج جديدة في المعرض يؤكد أننا أمام مشروع دولة، وليس مجرد طموح عابر.

فمصر هي الدولة العربية الوحيدة تقريبًا التي حافظت على قاعدة صناعات عسكرية مستقلة لأكثر من ستين عامًا، وجعلت منها ركيزة لسياساتها الدفاعية.

لكن القوة العسكرية ليست مجرد أرقام أو صور لأسلحة جديدة، بل فلسفة وإستراتيجية.

ومصر اليوم تعلن بوضوح أنها لا تسعى إلى الحرب، لكنها مستعدة لها.

وهنا يظهر المعنى الحقيقي لـ«سلام الشجعان».

فالدولة التي تملك القدرة على الردع هي الدولة القادرة على فرض السلام، لأن خصومها يعرفون مسبقًا أن كلفة الاعتداء عليها ستكون كارثية.

وبالتالى، يصبح السلام خيارًا عقلانيًا، وليس تفضيلًا معنويًا.

وقد فهم الإسرائيليون هذا جيدًا، وظهرت علامات القلق في تصريحات متعددة لمسؤولين عسكريين وفنيين لديهم، تحدثوا فيها صراحة عن أن مصر تتحول تدريجيًا إلى قوة صناعية دفاعية كبرى، وأن أي تغير في العقيدة المصرية أو موقفها السياسي يمكن أن يعيد رسم الخريطة العسكرية للمنطقة بالكامل.

ومع تراجع ثقة المجتمع الإسرائيلي بمؤسسته العسكرية بعد الأحداث الأخيرة، أصبح مشهد التطور المصري مضاعِفًا للتوتر لديهم.

غير أن ما لا يفهمه كثير من المحللين الأجانب هو أن تطوير القوة المصرية ليس موجهًا ضد دولة بعينها، بل هو مشروع حماية للأمن القومي الممتد من حدود ليبيا إلى فلسطين، ومن البحر المتوسط حتى البحر الأحمر.

فمصر لا يمكنها أن تبقى قوة سياسية واقتصادية في المنطقة دون أن تمتلك قوة عسكرية تليق بتلك المكانة.

وهذا ما تفعله اليوم: إعادة بناء قوة الردع على أسس عصرية، تكنولوجية، ومتطورة، تجعلها قادرة على حماية مصالحها وردع أي تهديد في محيطها الإستراتيجي.

ولعل أهم ما في المشهد كله هو أن مصر لم تُعلن كل ما عندها، ولم تكشف تفاصيل ترسانتها بشكل كامل، بل تركت «المجهول» يعمل لصالحها.

ففي عالم السياسة، ما لا يُقال يكون أحيانًا أقوى مما يُقال.

ووجود أسلحة غير معلنة، قدرات غير معلنة، وخطط تطوير لا يعرف عنها أحد إلا حدودًا ضيقة، يجعل أي حسابات عدوانية ضد مصر حسابات مستحيلة.

وفي النهاية، يتأكد للعالم كله أن مصر اليوم ليست الدولة التي يمكن اختبار صبرها أو الاقتراب من حدودها أو تهديد أمنها.

إن سلاح الردع المصري ليس مجرد قوة عسكرية، بل منظومة كاملة من القوة والوعي والسيادة والثقة.

وبذلك تقول مصر للعالم كله بثبات وعزم: لا تقربوا من مصر.. فتحرقكم النار.

الصفحة الثانية من العدد رقم 441 الصادر بتاريخ  4 ديسمبر 2025
تم نسخ الرابط