وداعا ديسمبر.. الأيام تمضي ولا شىء يبقى إلا حكمة الزمن

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- وداع العام ليس مجرد نهاية زمنية بل تصفية حساب مع الذات 

- التحرر من العلاقات السامة هو أول انتصار للنفس لإعادة التوازن

- التخلي عن الكراهية والأنانية بداية الطريق للسلام الداخلي

- البدايات الحقيقية لا تحتاج إلى توقيت بل إلى شجاعة قلب

- الزمن لا ينتظر أحدا وما يبقى في النهاية مجرد ذكريات

كلما اقترب ديسمبر من نهايته، أشعر وكأن قلبي يتباطأ قليلًا، يمنح نفسه فسحة للتأمل والمراجعة.

هناك شيء غريب يحدث في هذا الشهر تحديدا، وكأن الزمن يبطئ من سرعته ليمنحنا فرصة للنظر إلى الوراء دون استعجال، فرصة لنرتب دواخلنا التي فوضناها للصخب طيلة العام، أعود لنفسي في هذا التوقيت، أراجع أين كنت وأين وصلت، من بقي بجانبي ومن اختفى، ما الذي علمني إياه العام، وما الذي سرق مني شيئا دون أن أشعر، ديسمبر بالنسبة لي ليس مجرد نهاية سنة، بل هو بداية وعي جديد لحظة صدق لا مفر منها مع النفس.

وللحق فإنه عندما يحل ديسمبر، أشعر بشيء مختلف، شيء لا يمكن وصفه بسهولة، كأن هذا الشهر يمتلك القدرة السحرية على الضغط على زر "الإيقاف المؤقت" لحياتنا، فيدعونا لننظر خلفنا، ونراجع الطريق الذي سرنا فيه، كل عام، أُفاجأ بأنني قد تغيرت، حتى إن لم أكن قد لاحظت ذلك في زحمة الأيام، نعم، ديسمبر ليس مجرد نهاية لعام آخر، بل هو مرآة ضخمة نجبر على الوقوف أمامها، والنظر بصدق في عيوننا وقلوبنا، وكلما دخل هذا الشهر، كأن المشاهد تتسارع في ذهني لحظات ضحك، مواقف صعبة، دموع خبأتها جيدا، وابتسامات شاركتها مع من أحب، أُعيد مشاهدة الفيلم، ولكن هذه المرة، أنا المشاهد الوحيد، ولا أحد يراني، وهذا يجعل التأمل أكثر صدقًا، وأكثر وجعًا أحيانًا.

لقد أدركت خلال السنوات الماضية أن الحياة ليست فقط عما ننجزه، أو نمتلكه، أو نصل إليه، الحياة تدور بشكل عميق حول ما نشعر به، وحول الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين ومع أنفسنا، وهنا، في نهاية العام، يصبح الوقت مناسبا تماما لأهم سؤال: من أكون؟ وهل ما زلت أحب ما أصبحت عليه؟

في لحظات كثيرة من العام، نصاب بخيبات، ونخدع، ونتعرض للخذلان، أشخاص كنا نظن أنهم معنا، يثبتون أنهم علينا، وفجأة نجد كلمات جارحة، مواقف قاسية، وخيانات مغلّفة بابتسامات، وكل ذلك يخلف شيئا خطيرا في داخلنا الكراهية، الغضب، الرغبة في رد الأذى، وهذه المشاعر، برغم كونها طبيعية، فإنها إذا طالت، فإنها تحول قلوبنا إلى حجارة.

في ديسمبر، قررت أن أُسامح، لا لأن من ظلمني يستحق، بل لأنني أنا أستحق أن أعيش دون عبء، أدركت أن الكراهية لا تعاقب أحدا سوى صاحبها، تتعبنا من الداخل، تسرق طاقتنا، وتثقل خطواتنا، الإنسان لا يمكن أن يبدأ عاما جديدا بروح قديمة مثقلة بالحقد، فلا باب جديد يفتح بقلب مغلق، كثيرون فقدوا أنفسهم بسبب علاقات أنانية، أو بيئة لا تحتمل التقدير المتبادل، نحن نعيش في زمن صارت فيه "الأنانية" نوعا من الذكاء الاجتماعي.

ولكن، ما قيمة الذكاء إذا كنا نفقد بعضنا في الطريق؟! أدركت أن العلاقات التي تقوم على الأخذ دون العطاء لا تنمو، بل تموت ببطء، ولهذا، اخترت أن أُبعد نفسي عن كل من لا يرى إلا نفسه، ولا يُبصر إلا مصلحته.

العام الجديد يحتاج مساحة نظيفة من الداخل، ولا يتحقق ذلك إلا بالتخلص من الأنانية، أو على الأقل، الوعي بوجودها فينا ومحاولة تقويمها، علينا أن نمنح بصدق، ونحب بإخلاص، ونساند من نحبهم دون انتظار مقابل، فهذه الروح، وإن بدت نادرة، هي وحدها القادرة على خلق حياة تستحق، ولا أخفي أن هذا العام، خسرت بعض العلاقات، منهم من غادر دون وداع، ومنهم من اختار أن يُظهر وجها آخر لم أكن أعرفه، في البداية، شعرت بأنني خذلت، لكن مع مرور الوقت، رأيت في كل خسارة درسًا عميقا، علمتني أن الحب لا يكفي، وأن النية الطيبة لا تضمن النتيجة، وأن الناس يتغيرون، وهذا حقهم، كما هو حقي أن أختار البقاء أو الرحيل.

نهاية العام فرصة ذهبية لأن نعيد ترتيب أدوار الأشخاص في حياتنا، من يستحق أن يُكمل معنا؟ ومن أثقل علينا الطريق؟ ومن نحبهم لكن لا يناسبوننا؟ هذه الأسئلة، وإن كانت مؤلمة، إلا أنها ضرورية لنحيا بسلام، فما أجمل أن تكون صادقا مع نفسك في نهاية كل عام، أن تجلس وحيدا، بعيدا عن ضجيج العالم، وتُفكر: ماذا تعلمت؟ من الذي خذلني؟ ومن الذي دعمني؟ ما الشيء الذي ندمت عليه؟ وما الشيء الذي أفخر به؟ هذا الصدق، هو أعظم هدية يمكن أن تهديها لنفسك قبل بدء عام جديد، ومع نهاية هذا العام، أنا لست كما كنت، نضجت أكثر، فهمت نفسي أكثر، وعرفت جيدا أن السلام الداخلي لا يُهدى، بل ينتزع من قلب الفوضى، لن أُضيع وقتي في علاقات غير متزنة، ولن أسمح للأنانية بأن تحكم اختياراتي، سأسعى للخير، وأغفر أكثر، وأحب بعمق، ولكن بحذر ناضج، سأفتح بابا جديدا للحياة، بابا مليئا بالأمل، بالحب، بالعطاء، وبالقوة، وسأترك خلفي ما يؤذيني، وأمضي نحو ما يستحقني، فالعمر أقصر من أن نضيعه في محاولات إنقاذ ما لا ينقذ، أو إصلاح من لا يريد التغيير، كثيرون ينتظرون "الواحد من يناير" ليبدأوا حياة جديدة، وكأن التغيير مربوط بصفحة في التقويم، لكن الحقيقة أن التغيير الحقيقي يبدأ حين نقرّر أن نكون أوفى لأنفسنا، أن نواجه ضعفنا بشجاعة، وأن نُغلق الأبواب التي تؤذينا بلا خوف، لا تنتظر "العام الجديد"، بل كن أنت الجديد، جرب أن تكون أكثر رحمة، أكثر هدوءا أكثر حرصا على وقتك ومشاعرك، فهذه هي الطفرة الحقيقية التي يستحقها قلبك، نحن نعيش في زمن صاخب، الكل يجري، يصرخ، يعلق، يُحاكم، يقارن، وسط هذا الجنون، يصبح الهدوء ميزة نادرة، وفي نهاية العام، أدركت أن أثمن ما أملكه هو هدوئي الداخلي، ذلك الشعور بأنني لست في سباق مع أحد، وأنني أعيش على طريقتي، أختار ما يناسبني، وأبتعد عما لا يشبهني، كن أنت السلام في عالم يمزقه القلق، وامنح من حولك لمسة طمأنينة، فلعلها تكون ما يفتقدونه طوال العام.

ومع دقات الساعات الأخيرة من ديسمبر، أشعر بأنني لا أود فقط توديع عاما مضى، بل أودع نسخة من نفسي، كانت تحمل بعض الضعف، بعض الخوف، وربما بعض الظلال التي أثقلت قلبي، أفتح بابا جديدا على اتساعه، وأقرر أن أترك خلفي كل ما يعطل روحي عن الحياة: الأنانية، الكراهية، العلاقات المستنزفة، والأحاديث المؤجلة، سأبدأ عامي الجديد بقلب أخف، ووعي أصفى، ونية صادقة لأكون أفضل، لأن الحياة لا تنتظر، والوقت لا يعاد، والمهم في النهاية هو أن نعيش بسلام مع أنفسنا.

الصفحة السابعة من العدد رقم 444 الصادر بتاريخ  25 ديسمبر 2025

 

تم نسخ الرابط