قانون الكهرباء بين هيبة الدولة وحق المواطن في حياة كريمة

خالد الطوخى - صورة
خالد الطوخى - صورة أرشيفية

- سرقة الكهرباء ليست سرقة من الحكومة بل سرقة من المجتمع كله

- لابد من المقاومة الاجتماعية للسرقة وسيتحول "التحايل" من بطولة زائفة إلى وصمة

- لا عدالة في الفواتير دون ردع للمخالف.. ولا هيبة للقانون دون رحمة بالإنسان

- العدادات الذكية وأنظمة القراءة الدقيقة ليستا مجرد تطوير إداري بل هما سلاح ضد الفوضى

- العلاقة بين المواطن والخدمة العامة إن لم تكن مبنية على الثقة ستتحول إلى شد وجذب دائمين

- الدولة حازمة في حماية حقها وحق المجتمع لكنها في الوقت نفسه دولة تفهم واقع المواطن وتفتح مسارات تصحيح

القوانين في تقديري الشخصي لا تُقاس فقط بصرامة العقوبة، ولا بارتفاع نبرة الردع، لكن بمدى قدرتها على استعادة ميزان العدالة في حياة الناس اليومية؛ لأن العدالة، في معناها البسيط، ليست فكرة معلّقة في الهواء ..هي فاتورة تُدفع، وخدمة تُقدَّم، وشبكة تُصان، وحقٌّ لا يتحوّل إلى عبء على الشريف، ولا إلى مكافأة على المخالف.

وخلال الساعات الأخيرة، عاد الحديث بقوة عن تعديل قانون الكهرباء، وتحديدًا ما يتعلق بسرقة التيار، وهو ملف لا يحتاج إلى تذكير بحساسيته؛ لأن الكهرباء لم تعد "خدمة" ترفيهية، بل أصبحت شريانًا حقيقيًا في جسد الدولة والمجتمع: بيت بلا كهرباء هو بيت بلا حياة طبيعية، مصنع بلا كهرباء هو اقتصاد يتعثر، مستشفى بلا كهرباء هو كارثة، ومدرسة بلا كهرباء هي مستقبل يتعطل.

لذلك حين تقترب الدولة من هذا الملف بتعديل تشريعي، فالأمر لا يخص بندًا قانونيًا فحسب، بل يخص روح المجتمع نفسها: كيف نحمي الحق العام دون أن نكسر الناس؟ وكيف نردع المخالف دون أن نظلم المحتاج؟ وكيف نرفع هيبة القانون دون أن يتحول إلى سيفٍ على رقاب البسطاء؟

أنا لا أتعامل مع سرقة الكهرباء باعتبارها "حيلة شطارة"، ولا باعتبارها "أزمة أخلاق فردية" فقط. أراها مرآة مكبرة لأكثر من طبقة في المجتمع.

فيها جريمة صريحة حين تكون منظمة ومقصودة وممنهجة، وفيها منطقة رمادية حين تدفع ظروف قاسية البعض إلى مسارات خاطئة، وفيها أيضًا حالة خطر أكبر حين يتحول التساهل معها إلى عرف اجتماعي، فيفقد القانون هيبته شيئًا فشيئًا، ويصبح الشريف هو الوحيد الذي يدفع الثمن كاملًا، بينما المخالف يعيش على حسابه وعلى حساب الدولة.

وهذه النقطة تحديدًا هي التي تجعل أي تعديل تشريعي ضرورة، لا ترفًا.

لكن علينا أن نقول بوضوح: الردع وحده لا يكفي؛ لأن القانون حين يواجه ظاهرة ممتدة مثل سرقة التيار، يكون كمن يضع ضمادة على جرح عميق دون أن يعالج سبب النزيف. نعم، العقوبة مهمة.

نعم، التشديد مطلوب حين تكون السرقة متعمدة وبوقاحة، وحين تكون الشبكات تُنهب، وحين تصبح "الوصلة غير الشرعية" تجارة، وعصابة صغيرة في حيٍّ ما قادرة على تحويل الشارع إلى سوق سوداء للكهرباء.

هنا لا يجب أن نتردد في الحسم، لأن الدولة التي تتردد في حماية حقها العام تفتح الباب للفوضى.

لكن في المقابل، هناك سؤال لا يجب أن نهرب منه: كيف نضمن أن القانون لا يُطبَّق بمنطق واحد على الجميع دون فهم اختلاف الظروف؟ كيف نضمن أن هناك مساحة للعقل، وللتمييز بين من يسرق لأنه معتاد على الاستسهال والتهرب، وبين من ضاق به الحال، فوقع في خطأ، ويحتاج إلى تصحيح مساره لا إلى دفنه تحت جبال من الغرامات والتهديد؟ أنا لا أبرر، لكنني أفرّق بين "التبرير" و"الفهم"؛ لأن الدولة التي تفهم مجتمعها تملك القدرة على إصلاحه، بينما الدولة التي لا ترى إلا المخالفة لا ترى الإنسان خلفها.

لهذا، ما يلفت النظر في أي نقاش حول تعديل القانون هو الحديث عن "التوازن": توازن بين تجريم واضح وردع حقيقي، وبين آليات تُعيد المخالف إلى الطريق السليم بدلا من أن تدفعه إلى مزيد من العناد أو التحايل.

فكرة "التصالح" في حد ذاتها، حين تُصاغ بذكاء، يمكن أن تكون أداة إصلاح قوية: أن تقول للمخالف "أخطأت، لكن أمامك باب واضح لتسوية الوضع، ودفع المستحق، وتركيب عداد، والالتزام من جديد".

هذه ليست رخاوة كما يظن البعض، بل هي سياسة عامة لتجفيف منابع الظاهرة. لأنك إن أغلقت كل الأبواب، سيبحث الناس عن شبابيك خلفية.

ومع ذلك، لا بد أن يكون التصالح منضبطًا، لا يتحول إلى "موسم" يراهن عليه البعض في كل مرة: أعمل مخالفة الآن وأتصالح لاحقًا.

هنا تُقتل الفكرة.

التصالح الناجح هو الذي يكون استثناءً لإصلاح المسار، لا نظامًا دائمًا لمنح المخالف فرصة مفتوحة بلا نهاية.

والضبط الحقيقي يأتي من ربط التصالح بأدوات تقنية وإدارية تمنع تكرار الجريمة، وتراقب الاستهلاك، وتغلق منافذ العبث بالشبكة.

وفي رأيي الشخصي، لن تنجح أي تعديلات تشريعية دون أن تسير معها الدولة في ثلاثة مسارات متوازية: التكنولوجيا، والعدالة الاجتماعية، والثقافة العامة.

التكنولوجيا هنا ليست رفاهية ، العدادات الذكية، وأنظمة القراءة الدقيقة، وإدارة الشبكات ببيانات واضحة، ليست مجرد تطوير إداري، بل هي سلاح ضد الفوضى.

عندما يعرف المواطن أن استهلاكه مراقب بدقة، وأن أي عبث سيظهر سريعًا، ستقل مساحة التحايل.

وعندما تكون الشبكة نفسها محمية تقنيًا، ستصبح "الوصلة" غير الشرعية أقل جاذبية وأكثر خطورة على من يفكر فيها.

التكنولوجيا هي التي تنقلنا من معركة مطاردة طويلة إلى نظام يمنع الجريمة قبل أن تبدأ.

أما العدالة الاجتماعية، فهي جوهر الموضوع.

ليس من العدل أن يتحمل المواطن الملتزم عبء غيره.

وليس من العدل أيضًا أن يكون هناك مواطن يشعر بأنه غير قادر على دفع الفاتورة فيلجأ إلى الخطأ ثم يُسحق دون فرصة لإعادة البناء.

هنا تظهر أهمية وجود سياسات دعم حقيقية لمن يستحق، وسياسات تقسيط أو تسوية عادلة، ومراجعة عقلانية للغرامات بحيث تظل موجعة للمخالف المتعمد، لكنها لا تتحول إلى حكم مؤبد على الفقير.

العدالة الاجتماعية ليست عاطفة، بل هي شرط لاستقرار الدولة.

لأن المجتمع حين يشعر بالإنصاف يلتزم بالقانون أكثر مما يلتزم به خوفًا.

ثم تأتي الثقافة العامة، وهي المساحة التي نهملها كثيرًا.

نحن نحتاج إلى إعادة بناء فكرة بسيطة: أن سرقة الكهرباء ليست سرقة "من الحكومة"، بل سرقة من المجتمع كله.

سرقة من الشبكة التي نخدم بها المستشفيات والمدارس والبيوت.

سرقة من الميزانية التي تُصرف على تطوير محطات وشبكات وصيانة.

سرقة من المواطن الملتزم الذي يدفع ثم يُحمّل في النهاية تكلفة الفقد.

حين تترسخ هذه الفكرة، ستصبح المقاومة الاجتماعية للسرقة أكبر، وسيتحول "التحايل" من بطولة زائفة إلى وصمة.

وأنا هنا لا أريد أن أضع كل الحمل على المواطن، فالدولة أيضًا عليها واجبات واضحة: تبسيط الإجراءات، تسهيل تركيب العدادات، معالجة الشكاوى بسرعة، منع الفساد الإداري الصغير الذي يدفع الناس أحيانًا إلى طرق ملتوية، وتقديم خدمة محترمة تجعل المواطن يشعر بأنه يدفع مقابل شيء يستحق.

لأن العلاقة بين المواطن والخدمة العامة، إن لم تكن مبنية على الثقة، ستتحول إلى شد وجذب دائم، ووقتها لا قانون ولا عقوبة سيقفلان الباب بالكامل.

اللافت للنظر أن ملف الكهرباء يمس مشاعر الناس مباشرة، لأنهم يرونه في تفاصيل يومهم: في انقطاع، في فاتورة، في شائعة، في تجربة جار.

وهذا يجعل أي تعديل قانوني في هذا المجال موضوعًا عامًا بامتياز، وليس شأنًا برلمانيًا نخبويًا.

لذلك أنا أتمنى أن يكون النقاش حول التعديلات نقاشًا صريحًا وشفافًا، يشرح للناس ما الذي سيتغير وكيف ولماذا، دون لغة مبهمة أو شعارات عامة.

الناس لا ترفض القانون حين يكون واضحًا، بل ترفض الغموض، وتخاف من التطبيق العشوائي.

لذا يمكنني القول إن التحدي الحقيقي أمام تعديل قانون الكهرباء ليس صياغة النصوص وحدها، بل صياغة "الرسالة" التي يحملها القانون: رسالة تقول إن الدولة حازمة في حماية حقها وحق المجتمع، لكنها في الوقت نفسه دولة تفهم واقع المواطن وتفتح مسارات تصحيح، وتستخدم أدوات حديثة تمنع التلاعب، وتبني ثقة تجعل الالتزام خيارًا طبيعيًا لا مجرد خوف من العقوبة.

أنا لا أبحث عن قانون يُخيف الناس، بل عن قانون يجعل الناس تستحي أن تخالفه.

الفرق كبير.

القانون الذي يُخيف قد ينجح مؤقتًا، لكن القانون الذي يبني احترامًا دائمًا هو الذي يصنع دولة قوية.

وفي النهاية، الكهرباء ليست مجرد أسلاك وعدادات .. هي صورة من صور علاقتنا بالحق العام: هل نحميه ونصونه، أم نتركه يُنهك حتى ندفع الثمن جميعًا؟

وأظن أن هذه هي اللحظة المناسبة لنقول بصوت واحد: لا حماية للاقتصاد دون حماية الشبكات، ولا عدالة في الفواتير دون ردع للمخالف، ولا هيبة للقانون دون رحمة بالإنسان، ولا رحمة حقيقية دون نظام يمنع الفوضى.

هذا التوازن هو الامتحان .. وهو أيضًا الطريق الوحيد لكي تصبح القوانين جزءًا من حلٍّ كبير، لا مجرد سطر جديد في الجريدة الرسمية.

الصفحة الخامسة من العدد رقم 444 الصادر بتاريخ  25 ديسمبر 2025

 

تم نسخ الرابط