الخيار العسكري أصبح شبحا يجتاح العالم
في عام 1945 وبعد أن خرج العالم منهكا من حربين عالميتين، ظهر ما يعرف بالحرب الباردة التي كانت تدور ما بين المعسكرين الرئيسيين، المعسكر الشرقي المقصود به الاتحاد السوفيتي وقوات حلف وارسو.
وعلى الجانب الآخر المعسكر الغربي ويقصد به الولايات المتحدة وقوات حلف الناتو، كما شهدت تلك الفترة ظهور حركة مجموعة دول" عدم الانحياز "التي أسسها الرئيس عبد الناصر مع الهند وإندونيسيا التي رفضت الانضمام لأي من المعسكرين، وعلى الرغم من نجاح الحركة في حل عدد محدود من الأزمات والمشاكل الدولية من خلال الجهود السياسية والدبلوماسية، فإنها لم تكن ذات تأثير كبير على مستوى السياسة العالمية بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية للدول المشاركة بها .
ولقد كانت الخسائر الكبرى التي تسببت فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية سببا قويا في محاولة تفادي الدول الكبري في صراعاتها عبر اللجوء إلى الحلول العسكرية، ورغم أن الأمر لم يخل من حدوث عدد من الصراعات والحروب المحلية والإقليمية مثل حرب الولايات المتحدة في فيتنام والحرب الكورية والحرب الهندية- الباكستانية.
ولكن جميعها كانت حروبا إقليمية محدودة إلى أن قامت روسيا بالتدخل في أفغانستان، الأمر الذي تبعه التدخل الأمريكي ثم جاءت الحرب الإيرانية العراقية وحرب الخليج التي استدعت قيام تحالف دولي لتحرير الكويت من قبضة صدام حسين والقضاء عليه.
وفي عام 2022 شهد العالم اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية التي كانت البداية الحقيقية لعودة الحروب العسكرية الدولية في العصر الحديث كبديل عن الحلول الدبلوماسية التي كان يمكن حل الأزمة من خلالها ، ولكن عندما وجدت روسيا أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو يعني وصول قوات من 28 دولة على حدودها مباشرة بما يعني وجود تهديد مباشر لأمنها القومي أعلنت الحرب التي كان لها تأثيراتها على كل دول العالم خاصة في النواحي الاقتصادية، وكان الأكثر تأثرا دول العالم الثالث الفقيرة التي لم يكن لها لا ناقة ولا جمل في هذه الحرب التي استمرت في عامها الثالث حتى نوفمبر الماضي بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية والتي فاز بها الرئيس ترامب الذي سيقوم بإنهاء هذه الحرب مع بداية 2025 كما وعد بذلك في حملته الانتخابية.
وفي الشرق الأوسط لدينا الحرب بين حماس وإسرائيل التي اندلعت يوم السابع من أكتوبر 2023 وأعتقد أنه كان من الممكن إيقاف هذه الحرب من البداية مثلما حدث في الحروب السابقة بين الطرفين من خلال الوساطة المصرية التي كانت تنجح دائما في الوصول إلى اتفاق لوقف القتال بين الطرفين وعودة الهدوء للمنطقة.
وفي الجنوب نجد مثالا آخر لاشتغال الموقف العسكري وعدم اللجوء للحلول السلمية الأمر الذي تجسد في دخول الحوثيين باليمن في أعمال قتال مما شكل تهديدات لحركة الملاحة في البحر الأحمر ودفع القوافل التجارية البحرية لتجنب المرور عبر قناة السويس وتحويل المرور عبر رأس الرجاء الصالح لتزيد مدة الرحلات بمقدار 14 يوما مما أدى لزيادة مصاريف تلك الرحلات، الأمر الذي كان له تبعاته الاقتصادية على المستوى العالمي .
وبعيدا عن الحرب المشتعلة بالفعل، فهناك نيران خامدة تنتظر أقرب فرصة للاشتعال في منطقتين هامتين من العالم، الأولى: هي إيران التي يقف لها المعسكر الغربي وتحديدا الولايات المتحدة وقوات الناتو في حالة تحفز لضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووي ،خاصة مع مساعيها المستمرة لزيادة تخصيب اليورانيوم الأمر الذي يشكل تهديدا رئيسيا لإسرائيل التي بدورها ترفض وجود أي قوة نووية بالشرق الأوسط سواها .
هذا بالإضافة إلى معارضة دول العالم لزيادة أعداد الدول النووية في العالم أو ما أطلق عليه "النادي النووي " الذي يضم 9 دول هي أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا وإسرائيل.
أما المنطقة الثانية التي تنتظر اشتعال فتيل الحرب فهي جنوب شرق آسيا وتحديدا الصين وتايوان، رغم محاولات الاستفزاز الأمريكية من أجل دفع الصين لخوض حرب مع تايوان تتسبب في إضعاف الصين اقتصاديا خاصة أنها بقوتها الاقتصادية التي تتقدم يوما بعد يوم الأمر الذي لو استمر بنفس المنوال سيجعلها بحلول 2030 القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
ومن هنا أصبحت الحرب في جنوب شرق آسيا هي المسرح المنتظر للحرب القادمة وإن كنت أعتقد أن الصين على مستوى عالٍ من الذكاء الذي يجعلها حريصة على عدم الانخراط في أي حروب قادمة ولقد كان خير دليل على الحكمة والذكاء من السياسة الصينية في إدارة الموقف حيال الزيارة الأمريكية الاستفزازية التي قامت بها بيلوسي رئيسة الكونجرس الأمريكي إلى تايوان العام الماضي، لتنجح الصين في إدارة الأزمة والسيطرة على الموقف ومنع تصاعد الاستفزازات الأمريكية التي تهدف لسقوط المنطقة في غمار الحرب .
وبما أننا نعيش في زمن الأواني المستطرقة بما يعني أن أي حدث في منطقة ما يكون له تأثيراته على مختلف أنحاء العالم بغض النظر عن قربها أو بعدها من منطقة وقوع الحدث.
فلا عجب من وجود تزايد نحو لجوء الأطراف المتصارعة في العالم إلى استخدام الخيار العسكري، الأمر الذي انعكس بدوره على زيادة عمليات الإنفاق العسكري من أجل تعزيز قوة الدولة عسكريا، وأبسط مثال على ذلك قيام ألمانيا بدعم قواتها المسلحة بما قيمته 100 مليار يورو علاوة على ميزانية وزارة الدفاع الحالية ثم قيام فنلندا والسويد بتخليهما عن سياسة الحياد وطلب انضمامهما لحلف الناتو وبدأت ألمانيا في الدعوة لإنشاء جيش أوربي يمثل القارة العجوز .
والحقيقة أن ذلك التزايد في الميل نحو استخدام القوة العسكرية لابد وأن يجعل الخوف هو الشعور الأكثر سيطرة على كل متابع لما يحدث على الساحة العالمية بعد أن عاد العالم مرة أخرى إلى الخيار العسكري الذى كنا نظنه أمرا قد انتهى بعد معاناة العالم من حربين عالميتين أودتا بحياة الملايين في مختلف بقاع الأرض .