"الرضا" كنز لا يفنى

- القناعة.. مفتاح راحة البال وسر السعادة الأبدية
- الطمع سر الشقاء.. والجشع نار تأكل القلب
- الرضا.. هو الطريق إلى الراحة الحقيقية
- القلوب البيضاء لا تنكسر بل تزداد نقاء وتعلو على "وحل" الزيف
الكتابة عن "الإنسانيات" ليست مجرد رصد لحالات وجدانية، بل هي غوص في أعماق النفس البشرية، تماما كما يمسك أحدنا وردة بلدية فاتنة تفوح عطرا، لكنها في المقابل تدمي اليد بما يحيطها من أشواك حادة، إنها معادلة بالغة الحساسية بين الجمال والألم، بين النقاء والخذلان، بين صفاء المشاعر وخبث التجارب، ولعل من أعمق ما يمكن الحديث عنه في هذا السياق، هو الرضا، ذلك الشعور العميق الذي لا يشترى ولا يمنح، إنما ينبع من أعماق النفس، ويتكئ على يقين صلب بأن ما نحن فيه هو الخير، وما لم يُكتب لنا ففي عدمه حكمة، الرضا، كما أراه، ليس حالة خضوع للأمر الواقع، بل هو طمأنينة قلبية تنبع من ثقة مطلقة بعدالة القدر، ورغبة حقيقية في السلام مع الذات.
حينما تمتزج القناعة بالإخلاص، فإننا أمام معجزة حقيقية، فكم من علاقات انتهت لأن أحد الطرفين لم يكتف بما لديه، وظل يلهث خلف المزيد..! وكم من صداقات خمدت نارها لأن الإخلاص شحن بأنانية! بينما العلاقات التي تنمو في أرض القناعة تزهر، وتثمر، وتُعيد للروح بهجتها، ففي زمن تتسارع فيه الخطى نحو المصالح وتوزن فيه المشاعر بميزان المنفعة، يصبح الإخلاص قيمة نادرة لكنها ضرورية للبقاء، فهو وحده القادر على إنقاذ ما تبقى من دفء في العلاقات الاجتماعية، وهو الذي يُعيد الحياة إلى الوجوه التي أنهكها الزيف، ويمنح القلوب طمأنينة لا تشبه أي شىء.
وليس سهلاً أن ترضى، ففي طريقك إلى هذا الشعور النقي، ستمر بمطبات الغدر، وستُجرح من أقرب الناس، وقد تنكسر في لحظات ظننت أنك أقواها، ولكن كل تلك التجارب ما هي إلا صقل للنفس، ومرايا تعكس مدى قدرتك على التصالح مع نفسك، لذا، فالرضا لا يعني أن تسلم أمرك لما هو قائم دون رغبة في التحسين، بل هو يقظة الروح في حضرة الواقع، وقدرتها على النجاة من اضطرابات الحياة بعين لا ترى سوى الخير، وقلب لا يعرف الحقد، وعقل يُحسن التدبر فيما مضى وما هو آتٍ.
وبما نحن في عالم مزدحم بالمنافسة، منهك بالصراعات، تظل القيم النبيلة كالقوارب الصغيرة التي تضمن لنا البقاء فوق سطح الحياة، والرضا، بكل تجلياته، هو المجداف الذي يُسيّر تلك القوارب، ويحمينا من الغرق في بحر التوقعات، فيا ليت نمسك بتلك الوردة وإن جرحتنا أشواكها، فما زالت الحياة، برغم كل شىء، تستحق أن نعيشها برضا وسلام، حيث يظل "الرضا" هو الركيزة الأساسية التي تمنحنا الثبات الانفعالي وسط دوامات الحياة العنيفة، وهو النعمة الخفية التي لا يشعر بها إلا من ذاق مرارة السخط وارتباك التوقعات، هو "الماستر" الذي يفتح أبواب النفس على مصراعيها لتتصل بالطمأنينة، وتنسجم مع إيقاع القدر، بالرضا وحده نتمكن من تجاوز الإحباطات، ومن تحويل الخسائر إلى دروس، والتجارب المؤلمة إلى حكمة، إنه القوة الناعمة التي تجعلنا نكمل الطريق حتى وإن أنهكت أرواحنا، لأنه يمنحنا الإيمان بأن ما كتب لنا لا يخطئنا، وما أخطأنا لم يكن لنا، الرضا لا يعني أن نغض الطرف عن الطموح أو نكبح تطلعاتنا، بل هو أن نسعى ونجاهد، ثم نسكن إلى ما جاد الله به علينا، دون تذمر أو مقارنات مدمرة.
لكن، وعلى الجهة الأخرى من هذا النور، هناك ظلال قاسية لا يمكن إنكار وجودها، تتجسد في مشاعر الجحود ونكران الجميل، حين يأتي الطعن من القريب، من الذين أسرفنا في عطائهم دون حساب، تكون الضربة أشد إيلاما، لأنها تهز فينا الثقة، وتحدث شروخا في جدار الطمأنينة، قد يكون الجحود أمرا معتادا في مسيرة الحياة، لكن أكثر ما يوجع فيه هو مباغتته، حين يصدر من وجوه ظنناها امتدادا لقلوبنا، وبرغم الألم، فإن الرضا يظل الحصن الذي نلوذ به، فهو الذي يمنحنا السلام مع أنفسنا، حتى حين تفيض الدنيا بالنكران، وهو الذي يجعلنا نغفر بصمت، ونواصل بإيمان، لأننا ببساطة نؤمن بأن الخير لا يضيع، وأن الله لا يترك قلوبا بيضاء دون أن يكرمها ولو بعد حين.
أما الطمع، ذلك السلوك القاتم، لا يورث صاحبه إلا الحزن والتعب، فهو كالنار التي تأكل القلب قبل أن تمتد إلى ما حوله، لا يشبع الطمّاع مهما امتلك، ولا يعرف للرضا طريقًا، فتظل نفسه في صراع دائم بين ما لديه وما يظن أنه يستحق، أما الجشع، فهو الوجه الأقسى للطمع، سارق الطمأنينة من النفوس، ومبعثر السلام الداخلي، لا يترك الإنسان إلا متوترا، قلقا، خائفا من الفقد، غير مستمتع بما بين يديه، لأنه دائم النظر إلى ما في يد غيره، إن الرضا بما قسمه الله هو الطريق إلى الراحة الحقيقية، أما من سكن قلبه الطمع فلن يعرف يومًا طعم السعادة.
وفي هذا العالم المتغير، يظل أصحاب القلوب البيضاء أشبه بزهور نادرة تنمو وسط صخور القسوة والخداع. قد يكونون أكثر الناس عرضة للخذلان، لأنهم يمنحون بلا حساب، ويصدقون النوايا الطيبة حتى وهم يلمحون غدرًا يتوارى خلف الابتسامات.
نعم، هم الأكثر تعرضًا للألم، لأنهم لا يتقنون فن المراوغة ولا يعرفون سوى لغة الصفاء والصدق. لكن، على الرغم من الجراح المتكررة، فإن قلوبهم لا تنكسر، بل تتطهر، هم لا يفقدون إنسانيتهم بل يزدادون نقاء، لأن صمودهم لا ينبع من قسوة بل من نبل، ولأنهم لا يردون الخداع بالخداع، بل بالصبر والتسامح، متيقنين أن النقاء لا يهزم، بل يثمر في النهاية طمأنينة وسلاما لا يعرفهما سواهم.
ويظل الرضا هو الجوهرة النادرة التي يبحث عنها الإنسان في زحام الحياة وضغوطها المتزايدة، هو ذلك الشعور العميق الذي لا يأتي بالمال ولا بالمكانة، بل ينبع من توازن داخلي راسخ يحقق السلام النفسي والصفاء الروحي، الرضا ليس مجرد حالة عابرة، بل هو اختيار واعٍ يجعلنا نواجه تقلبات الحياة بحكمة وثبات، ويمنحنا القدرة على تقبل ما لا نستطيع تغييره بشجاعة، وفي الوقت نفسه يحفزنا على السعي لما هو أفضل دون يأس أو اضطراب، هو المرآة التي تعكس جمال قلوبنا ونقاء نوايانا، حيث يذوب الحقد وتزول الكراهية، ويحل محلهما التسامح والمحبة الصادقة.
وعندما نعيش برضا حقيقي، نكتشف أن السعادة ليست هدفاً نركض خلفه، بل هي حالة دائمة تنمو مع قناعة النفس بجميل ما وهبها الله من نعم، ومع صدق الإخلاص في العلاقات التي نبنيها، فنحن نصنع المعجزات الصغيرة يومياً بفضل هذه القناعة، ونعيد للروح دفء إنسانيتها، إن الرضا هو مفتاح أبواب لا يغلق، هو الجسر الذي يعبر بنا نحو حياة أكثر هدوءاً واتزاناً، وحيث يسكن السلام، نجد السعادة الأبدية بلا منازع. فلنحفظ هذا المفتاح ونرتعش من بريقه، فهو سرٌ لا يدركه إلا من عاشه، وبذاك نرتقي إلى أسمى معاني الحياة.
