الصحبة الحقيقية أساس العلاقات الإنسانية الصحيحة

الكاتب والإعلامى
الكاتب والإعلامى محمد فودة - صورة أرشيفية

- الصداقة الناضجة تمنحك السلام دون أن تطلبه.. والونس الحقيقي لا يُشترى

- العلاقات المستنزفة خطر صامت يهدد راحة الإنسان النفسية

- الأمان النفسي.. العملة النادرة لاستمرار العلاقات وميزانها الحقيقي

- تمسكوا بالصحبة الصافية.. وابتعدوا عن العلاقات التي تستنزف الطاقة والروح

كثيرا ما أجد نفسي أتوقف عند سؤال بسيط لكنه عميق هو: من حقا يستحق أن يبقى بجوارك؟ ومن الذي  يظل بجوارك لا لمصلحة، ولا بدافع الحاجة، بل؛ لأنه يحب وجودك كما أنت؟ اكتشفت أن الصحبة الحقيقية لا تقاس بعدد السنين، بل بكم الطمأنينة التي نشعر بها مع الآخر، وأن العلاقة الصحية ليست تلك التي تخلو من المشاكل، بل التي تنجو منها بحب واحترام.

نحن لا نحتاج عددا كبيرًا من الناس حولنا، بل نحتاج قلوبًا صادقة، وأرواحا تحتوينا دون أن تستهلكنا. 

إنني في هذا المقال أستكمل الحديث والخوض في العلاقات الإنسانية المتشابكة والمتداخلة، ولعل المقال محاولة لفهم المعنى العميق للعلاقات التي تداوي ولا تؤذي، تغني ولا تنقص، وتشبهنا أكثر مما تشبه الآخرين.

كلما مر الوقت، أدركت أن العلاقات ليست مجرد وجود متبادل، بل مسؤولية مشتركة، الصحبة الحقيقية لا تفرض نفسها، لكنها لا تغيب حين تحتاجها، والعلاقة الصحية لا تصرخ لتثبت نفسها، بل تثبت وجودها في الهدوء، في المواقف، في التفاصيل الصغيرة، ولعلنا في هذا العالم المتسارع، باتت العلاقات تُستهلك كما تُستهلك الأشياء، لكن هناك دائمًا مساحات دافئة لمَن يفهم، ويحتوي، ويصبر، ويختار أن يكون سندًا لا عبئا.

لقد تعلمت أنني لست بحاجة لعلاقات كثيرة، بل لحقيقتها، أن أكون مع من لا يشككني في نفسي، ولا يُطفئ شغفي، ولا يستغل طيبتي، من يعاملني كما أعامله، من يفهم أن الحضور ليس وقتا فقط، بل طاقة تُشعرني بالأمان.

وفي النهاية، نحن لا نبحث عن الكمال، بل عن شخص يشبهنا في اختلافه، يقبلنا حين نعجز عن تقبّل أنفسنا، ونشعر معه بأن العالم أرحم، ففي رحلة الحياة، لا شيء يشكلنا بعمق مثل العلاقات التي نعيشها.

لا أعني عددها، بل معناها، هناك صداقات مرت كنسمة، وعلاقات تركت رمادًا، وأخرى ما زالت كالماء العذب نرتوي منها حتى اليوم، وبين هذا وذاك، نفهم أنه ليست كل صحبة تُسمى صداقة، وليست كل علاقة تُعدّ صحبة.

وللحق فقد تعلمت أن الصحبة الحقيقية لا تحتاج إلى صخب أو إثبات يومي، يكفي أن تعرف أن هناك من يفهمك من نظرة، من يسندك دون أن تفصل ألمك، من يفرح لك كأن الفرح له، لا يغار، لا يقارن، لا يحاسبك على المسافات أو الانشغال، لأنه يعرف قيمتك قبل أن تشرحها.

وفي المقابل، اختبرت علاقات حملت لافتة "الحب" لكنها كانت مرهقة، تستهلكني، وتطالبني بالتبرير والجري المستمر لإرضاء طرف لا يرى إلا نفسه، وهنا أدركت أن العلاقة الصحية ليست المثالية، لكنها التي لا تتعبك، ولا تسرق منك نفسك، ولا تجعلك تسأل طوال الوقت: هل أنا كافٍ؟ إن العلاقة الصحية تشبه الصداقة الحقيقية: فيها مساحات آمنة، واحترام متبادل، وحدود واضحة، ودعم لا يتغير بتغير المزاج. لا تجعلك تخاف من قول "لا"، ولا تشعرك بالذنب حين تختار نفسك. 

نحن نعيش في عالم يمتلئ بالعلاقات السريعة والمصالح المتبادلة، لذلك أصبحت أقدّر الصحبة التي تنبت الطمأنينة، وأرفض كل علاقة تشعرني بأنني في اختبار دائم، ما أجمل أن تجد شخصا  صديقا لا يخذلك حين تحتاجه، لا يسأم من شكواك، لا يقلل من فرحك، لا يحكم عليك حين تضعف، بل يُرممك في صمت ويذكرك بمن تكون، إنني تعلمت أن العلاقات لا تُقاس بطولها، بل بعمقها، ولا بكم الكلام، بل براحة الصمت، وأن أجمل العلاقات هي تلك التي لا تسرق طاقتك، بل تضيف إليها، التي تجعلك أفضل، لا أكثر توترا.

لذلك، تمسكوا بالصحبة التي تشبه الضوء، وابتعدوا عن العلاقات التي تُطفئ أرواحكم، فالحياة قصيرة، والقلوب لا تحتمل العبء الزائد.

ولقد أصبحنا في وقت تختصر فيه العلاقات في تفاعل إلكتروني أو مصلحة عابرة، بات العثور على الصحبة الحقيقية أمرا نادرا، بل ثمينا، الصحبة الحقيقية هي تلك التي تمنحك المساحة لأن تكون كما أنت، بلا تكلف أو أقنعة، صديقك الحقيقي لا يحتاجك في أفضل حالاتك فقط، بل يعرفك ويقدّرك حتى في أسوأ أيامك، العلاقة الناضجة بين الأصدقاء لا تقاس بعدد الرسائل أو اللقاءات، بل بالقدرة على استئناف الحديث من حيث انتهى، ولو بعد غياب، إنها علاقة تحتفي بالاختلاف لا تُدينك به، وتراك بعيون المحبة لا المقارنة. هذه الصحبة هي الامتداد الطبيعي للعلاقة الصحية؛ لأنها لا تتغذى على التحكم أو التملّك، بل على الفهم والقبول.

ولطالما كان مقياسي لأي علاقة هو ما تتركه بداخلي بعد انتهائها: راحة أم استنزاف؟ الحقيقة أن العلاقة الصحية ليست مجرد وجود شخص يحبك، بل شخص يُشعرك بأنك مسموع، مقدر، ومحترم.

العلاقة الصحية هي التي لا تُربكك ولا تجعلك تتساءل دومًا عن مكانك فيها، ولا تُعلّق سعادتك على رضا الطرف الآخر.

لا تُشعرك بأنك تُؤدي اختبارًا مستمرًا.

بل تمنحك طمأنينة الصدق، وحرية التعبير، وأمان الصمت.

وحين تتناغم تلك العلاقة مع قيم الصحبة الحقيقية، تصبح ملاذًا نفسيًا وروحيًا، تلتجئ إليه لا تهرب منه.

إن ما بين الصحبة الحقيقية والعلاقة الصحية قاسم مشترك لا يرى، لكنه يحس بعمق: الأمان، نعم الأمان النفسي هو ما يجعل تلك العلاقة تزدهر، حتى دون بذل مجهود قاسٍ. في العلاقات المريحة، لا تبرر نفسك كل مرة، ولا تُحاسب على كل تقصير عابر. 

بل تجد في الطرف الآخر من يُشجعك على النمو، لا من يُربك خطواتك.

العلاقة التي لا تُربكك تستحق أن تبقى؛ لأنها تدفعك نحو نسخة أفضل من نفسك، ولهذا فإن أصعب الخسارات ليست فقدان العلاقة، بل أن تجبر على أن تكون شخصًا آخر لتستحق البقاء فيها.

العلاقة الصحية والصحبة الصادقة تذكرك دوما بأنك كافٍ، كما أنت.

وتظل الصحبة الحقيقية نعمة لا تقدر بثمن، وهي أساس كل علاقة صحية تنمو على أرضية من الصدق والاحترام والقبول.

فالصديق الحقيقي ليس من يملأ الفراغ بالكلام، بل من يجالسك بصمتٍ مطمئن، ويمنحك مساحة أن تكون على سجيتك دون خوف من الأحكام.

هو من يرى ألمك دون أن تتكلم، ويحتفل بنجاحك دون أن يشعر بالتهديد، ويكون سندا لا عبئا، ومصدر راحة لا مصدر ضغط.

الصفحة السابعة من العدد رقم 435 الصادر بتاريخ  23 أكتوبر 2025

 

تم نسخ الرابط