محمد فودة يكتب: رحلة العمرة.. رحلة الروحانيات والصفاء النفسي
وهبنى الله التيسير لأداء العمرة فنسيت الحياة وطفت خارج حدود الزمان
فى "الروضة الشريفة" تذوب النفس عشقاً فى المصطفى
أمام "الكعبة المشرفة" تخلصت من منغصات الحياة وتأكدت أن الدنيا لا تساوى شيئًا
فى السعى بين "الصفا والمروة" عشت أصدق اللحظات وشحنت طاقة جسمى
فجأة وبدون أى ترتيب مسبق فوجئت بأننى فى الأراضى الحجازية ، وكأن القدر شاء أن أعيد شحن طاقتى الروحانية بهذه الرحلة لأداء العمرة، إنه ترتيب من الله عز وجل، فشعرت بأننى فى عالم روحانى لا أعرف كيف أصفه ولا أعرف أيضاً كيف يمكن أن أحتويه، لقد منحنى الله فرصة أداء العمرة أكثر من مرة، بل مرات عديدة، ولكن هذه المرة كل شىء كان مختلفا، فما أجمل الأشياء التى تأتى بعد اشتياق وما أروع اللحظات التى نعيشها دون سابق ترتيب، هذا ما شعرت به وأنا أقوم بأداء مناسك العمرة، فقد أكرمنى الله عز وجل بزيارة بيته الحرام وقبر رسوله الكريم بعد فترة من الاشتياق واللهفة على هذه الرحلة الإيمانية التى لا تعادلها أى رحلة أخرى لأى مكان فى العالم، وكيف لا يكون الأمر على هذا النحو من الروعة وأنا أجد نفسى أقف أمام الكعبة الشريفة التى اشتقت إليها كثيراً، فالنظر إلى الكعبة الشريفة يمنح العين طاقة إيمانية تفوق الوصف فهى أول لبنة وضعها الخليل إبراهيم -عليه السلام- وهو يضع قواعد بيت الله الحرام، أما الطواف حول الكعبة فهو يمثل حالة خاصة جداً، حالة تفوق الوصف من فرط روعتها، حيث إن هذا الأمر يبعث فى نفسى شعوراً قوياً بالطمأنينة وراحة البال، ليس هذا فحسب بل إنه يأخذنى خارج حدود المكان والزمان لأجد نفسى دون أن أشعر أتخلص شيئاً فشيئاً من منغصات الحياة ومتاعبها وما بها من صغائر وتفاهات.
ورغم قصر الرحلة فقد كانت ممتعة جداً، وتيقنت أن الله سبحانه وتعالى ييسر لى كل خطوة، كم كانت هذه الأيام القليلة زاخرة بالمعانى العميقة، وكم كانت الساعات تتوالى كأنها تسابقنا وأسابقها، وأحاول أن أشدها حتى لا تجرى منى، كل لحظة من هذه الأيام كانت مليئة بالدفء الروحانى والزخم الدينى العميق، والتوغل فى أسرار هذه الأراضى المقدسة التى أبداً لا يمكن الوصول إلى مفرداتها وإلى معانيها، كم كانت هذه الرحلة السريعة موحية لى بكثير من المفردات الإنسانية الكثيرة، وكم كانت شديدة الثراء، بحيث إنها شدتنى إلى الماضى وجعلتنى أستجمع كل الذكريات بكل ما فيها من تضاد وتلاقٍ وفراق للأحباب، حيث صورة أمى -رحمها الله- التى لن تزول من مخيلتى، فقد أديت مناسك العمرة هذه المرة من أجلها، كل لحظة كانت شديدة البهاء والبريق خاصة لحظات الطواف، حيث أحس معها أن جسدى كله يطير نحو روحانيات تتخلل كل خلاياى، وتنتفض بى نحو المجهول، حيث يتهيأ أمامى سر كأنه السر الأعظم، ولم يقتصر الأمر عند هذا الشعور أثناء القيام بالطواف حول الكعبة بل إن الأمر امتد أيضاً إلى السعى بين الصفا والمروة وما يتخلله من لحظات روحانية يمتزج فيها السعى الهادئ بالهرولة بين الصفا والمروة، هذا المكان الذى تغمره الملائكة وتتنزل فيه نسمات اليقين بأن الله عز وجل لا ينسى عباده المتضرعين والموحدين والساعين من أجل إرضائه، فهذا السعى وإن كان فيه بعض المشقة إلا أننى -والحق يقال- كلما سعيت بين الصفا والمروة شعرت بأن طاقة جسمى تزداد قوة ورغبة فى الاستمرار لاستكمال عدد مرات السعى بين الصفا والمروة وكأن هذا الجانب المهم فى مناسك العمرة بمثابة نقطة شحن الروح والبدن وكافة أعضاء الجسم.
وعلى الرغم من قيمة الصلاة فى بيت الله الحرام وعلى وجه الدقة أمام الكعبة المشرفة فإن زيارة المدينة المنورة يظل لها طعم مختلف فى نفسى، حيث الصلاة فى المسجد النبوى، ولن أكون مبالغاً حينما أقول إن زيارة المدينة المنورة تبدأ منذ لحظة الاقتراب من حدودها فكأن بيوتها تحتضن الزائر القادم إليها من كافة أنحاء العالم مشتاقاً للاقتراب من قبر سيد الخلق وأشرف المرسلين، ففى رحاب الحبيب بين الجوار والحوار تنطلق الأحاسيس والمشاعر، تتجلى على الإنسان أصدق المعانى والجواهر حين تجتمع بركة الزمان بنفحات الأيام وبركة المكان.. فما أطيب المدينة المنورة فى ثراها أقدام الحبيب وفيها تتنزل الرحمات محفوفة بالتجليات، إنها لحظة صفاء، وحالة من الوصل والاتصال تسمو فيها الروح وترتقى النفس ويتحول الإنسان من حال إلى حال لدرجة أنه لو أقسم على الله لأبرّه حيث تستجاب الدعوات وتجاب الطلبات وتتضاءل الأشياء مهما غلت وتصغر الأمور مهما علت ولَم يبق لك إلا جاه حبيبك المصطفى بين الجوار والحوار ليحدث الوصل والوصال بخالقك وبارئك ومقدرك فتخرق النواميس وتذوب الأحاسيس عشقا فى رسول الله وحبا فى مولاه.
وما إن دخلت المدينة المنورة حتى تملكنى إحساس خاص لا مثيل له، إحساس بالاحتواء وكأن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفتح ذراعيها لتحتوينى، وعلى الرغم من أننى زرت من قبل المدينة المنورة عدة مرات فإننى فى كل مرة أشعر بنفس الشعور وينتابنى إحساس بأننى أزورها لأول مرة، الطيبة تكسو وجوه أهل المدينة الأنقياء والسماحة عنوان لتعاملاتهم اليومية والنية الصافية والصادقة تحكم تصرفاتهم مع الزوار من عشاق الحبيب المصطفى.
لذا فإن دخول المسجد النبوى يمثل حالة مختلفة تماما، حالة تمتزج فيها الروحانيات بعبق الإيمان الذى يفوح من كافة أرجاء المسجد النبوى الشريف، الأنوار المحمدية تطغى على أنوار الإضاءة العادية، شيء ما يأخذك إلى عالم التقوى والورع ويسحبك بعيداً وكأنك تعيش مسحوراً بشيء ما لا تراه بالعين المجردة وإنما يخطفك بسحره وغموضه ليجعلك تعيش حالة روحانية لا مثيل لها.
وإذا كان الشعور على هذا النحو من الروعة فكيف يكون الأمر وأنا أقف بين قبر المصطفى ومنبره الطاهر، فتلك هى الروضة الشريفة التى حدثنا عنها سيد الخلق بقوله " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة "، وهو ما جعلنى أعيش أسعد لحظات عمرى وأنا أصلى فى هذا المكان، ففى هذه اللحظات تخلصت من كافة المشاعر الدنيوية وشعرت بأننى أذوب عشقاً فى التعلق بأخلاق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، سائلاً المولى عز وجل أن يمنحنى من فيض كرمه وجود إحسانه الشعور بالرضا والإحساس بالطمأنينة واغتنام الفرصة لأتزود من زاد التقوى، ورفعت أكف الضراعة إلى المولى عز وجل أن يتقبل منى زيارة بيته الحرام وأداء مناسك العمرة، وأن يمنحنى القدرة على التزود من بركات ونفحات الاقتراب من قبر الحبيب المصطفى فى المسجد النبوى الشريف.
حقا كانت رحلة العمرة سهلة دافئة، بل كنت أحس أننى أطير من السمو النفسى والروحانى، كم كنت هادئ النفس وراضى السريرة، وأحس أننى برغم كل الزحام والجو أننى أعيش فى أرض أخرى وسماء أخرى، وحياة جديدة تنبض بالأمل فى غدٍ أفضل ملىء بالعبق الروحى، مازلت أستمتع بهذا الكيان الذى سكن جسدى، لأنى أحس أنه ترتيب إلهى وليس ترتيبا بشريا، لهذا رأيت نفسى تنتقل إلى دنيا أخرى غير تلك الدنيا التى أعرفها، زيارة غريبة غير كل مرة وغير كل الزيارات السريعة إلى المدينة المنورة أو أرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حقاً كانت هذه العمرة مميزة كأنها أول مرة بالنسبة لى.. اغتسلت نفسى واغتسلت روحى واغتسل جسدى بهذا البريق الشفاف من الروحانية التى تملأ كل خلاياى، وتتمدد وتغير من كل ما بى، وترتقى بأحاسيس وبنظرتى للناس بل لكل ما حولى.
لقد عشت أياماً لن أنساها ما حييت فى رحلة العمرة وبعد هذه الرحلة لم أعد أحتاج إلى أى شىء من الدنيا، أتمنى من الله أن يتقبل عمرة هذا العام، وأن تظل كما أحس تعيش فى كيانى وفى كل خطوة من خطوات حياتى، وكأننى أعاهد نفسى بأن تتغير كل ملامح خطواتى القادمة.