سعاد كفافي.. "الأم" التي علمتني أن الحب الحقيقي يُترجم بالعطاء

- كانت تؤسس جامعة وتحمل على عاتقها رسالة وطنية اسمها التعليم
- من البيت إلى الجامعة.. كيف تركت سعاد كفافي أثرها في كل حجر وطالب ومريض؟
- المرأة التي جعلت من التعليم رسالة ومن الجامعة بيتًا ومن المستشفى قلبًا نابضًا بالرحمة
- علمتني أن الكرامة لا تُشترى وأن العمل أنقى أنواع العبادة
- "لا ترفع المصروفات على الطلاب".. وصية سعاد كفافي الأخيرة التي تحولت إلى مبدأ جامعي راسخ
- حين تتحول الأم إلى مؤسسة: كيف زرعت سعاد كفافي فلسفتها في جامعة ومستشفى يحملان اسمها؟
- من الحنان إلى الحلم.. سيرة سعاد كفافي: أم علّمت بالصمت أكثر مما قالت بالكلام
مرّت سنوات طويلة منذ أن غابت أمي عن هذا العالم، لكن الحقيقة التي لا يمكنني إنكارها، هي أنها لم تغب عني يومًا.
فكل صباح أستيقظ فيه على وقع خطوات العمل، وكل قرار أتخذه في سبيل إكمال رسالتها، وكل لحظة أرى فيها طالبًا يتخرج أو مريضًا يتلقى علاجًا في مستشفى يحمل اسمها، أشعر وكأنها حاضرة، تنظر إليّ، تبتسم في صمتها المعروف، وتهمس في قلبي: "أكمل.. لا تتوقف".
أكتب هذه الكلمات ليس بصفتي رئيس مجلس أمناء جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، ولا كمن تولى مسؤولية صرح تعليمي كبير، بل أكتبها كابنٍ يحمل في قلبه قصة امرأة عظيمة، لم تكن فقط أماً أنجبت وربت، بل كانت مدرسة تمشي على قدمين، تنشر النور حيثما حلّت، وتُعلم بالصمت كما بالكلمة، وترشد بالفعل قبل القول.
أكتب عن أمي، الدكتورة سعاد كفافي، الإنسانة التي تركت في حياتي فراغًا لا يملؤه شيء، لكنها في الوقت ذاته زرعت في داخلي يقينًا لا يهتز: أن الحب الحقيقي هو ما نقدمه للناس، لا ما نحتفظ به لأنفسنا.
حين كنت صغيرًا، لم أكن أدرك أنني أعيش مع امرأة استثنائية.
كانت أمي تعاملني بحنان الأمهات المعروف، تُراجع معي دروسي، وتدس في قلبي كثيرًا من الطمأنينة التي لم أعد أجد لها مثيلًا.
لكنها في ذات الوقت، كانت صارمة من أجل الحق، واضحة في مبادئها، لا تساوم فيما تؤمن به.
لم تكن تؤمن بأن هناك طريقًا مختصرًا للنجاح، كانت تكرر كثيرًا أن التعب ضرورة، وأن الإنجاز لا يولد من الفراغ.
كنت أراها تسهر طويلًا، تقرأ، تكتب، تتابع التفاصيل الكبيرة والصغيرة، وهي تبني صروحًا تعليمية، وتؤسس لمستقبل لم يكن أحد يراه سواها.
لقد كانت صاحبة حلم كبير، تجاوز حدود شخصها، حلم أن يكون لمصر تعليم يليق بأبنائها، أن يصبح للعلم مكانته، وأن تُكسر الفكرة النمطية عن التعليم الخاص باعتباره تجارة أو مشروعًا للربح.
كانت أمي تؤمن بأن التعليم يجب أن يكون رسالة، ومن يحمل هذه الرسالة عليه أن يخلص لها كما يُخلص الجندي لوطنه.
ولهذا اختارت أن تبني جامعة لا تُشبه غيرها، جامعة تحمل من اسمها الكثير، لكنها تحمل من روحها أكثر.
جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا لم تكن مشروعًا أكاديميًا فقط، بل كانت انعكاسًا كاملًا لفلسفة أمي.
كانت ترى أن الطالب يجب أن يُعامل باحترام، وأن البيئة التعليمية لا بد أن تكون محفزة، غنية، تُشعر من يدخلها بأنه دخل بيت علم لا مجرد مبنى.
ولهذا لم تدخر جهدًا في أن تزود الجامعة بأفضل المرافق، المكتبات، المعامل، الكليات المتخصصة.
كانت تسير بين جدرانها، لا كمن أسسها، بل كمن يتنفس من خلالها.
كانت تفرح بضحكات الطلاب، وتقلق إذا اشتكى أحدهم من عائق، كانت تتعامل معهم كأبنائها، تعطيهم من وقتها، ومن فكرها، ومن قلبها.
ولأنها لم تفصل يومًا بين العلم والإنسان، أنشأت مستشفى سعاد كفافي الجامعي، لتكون جامعة مصر ليست فقط مؤسسة للتعليم، بل كيانًا يخدم المجتمع، ويعطي لكل محتاج فرصة في العلاج والرعاية.
كنت أراها تتنقل بين أروقة المستشفى، تتحدث مع الأطباء، تسأل عن حالة هذا، وتتأكد من توفير الدواء لذاك.
كانت تعتبر أن أي جامعة لا تُحسن إلى مجتمعها، تفقد قيمتها. كانت تقول دائمًا: "ما نفع علم لا يشفي ألمًا؟" ولهذا، كان مستشفاها كالقلب النابض، يُرسل نبضات الرحمة من داخل الجامعة إلى خارجها.
لكنّ أجمل ما في أمي لم يكن في الأرقام، ولا في البنايات، ولا في المناصب التي شغلتها.
كان في تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُنسى.
كانت تترك لي رسائل صغيرة بخط يدها حين تسافر، وكانت تنتظرني حتى أعود من المدرسة لنأكل سويًا، مهما كان جدولها مزدحمًا.
كانت تشعر بي إذا تغير صوتي أو نبرة وجهي.
كانت تضع يدها على كتفي وتقول لي بهدوء: "أنا معك.. لا تقلق".
كانت تُحب الناس دون أن تُعلن ذلك، وتُعطي دون أن تنتظر المقابل، وتؤمن بأن الخير يُمارس في السر أكثر منه في العلن.
وأتذكر اليوم الأخير قبل رحيلها.
كنا نجلس معًا، تتحدث عن الجامعة، عن الطلاب، عن المشروعات التي لم تكتمل بعد.
ورغم المرض، كانت تتحدث وكأنها ستبدأ غدًا كل شيء من جديد.
وقبل أن تنتهي الجلسة، نظرت إليّ بعينها التي أعرفها جيدًا، وقالت بصوت خافت لكنه واضح: "خالد، لا ترفع المصروفات على الطلاب.. من يستطيع أن يدفع سيدفع، ومن لا يستطيع لا يجب أن يُحرم من التعليم".
كانت هذه وصيتها، وكانت هذه آخر كلماتها لي.
لم تكن توصيني ببيت أو ممتلكات، بل أوصتني بالرحمة، بالعدل، بالطلاب الذين لم تلتقِ بالكثير منهم لكنها كانت تراهم دائمًا في خيالها.
ومنذ ذلك اليوم، وأنا أحاول، بكل ما أوتيت من قوة، أن أُكمل ما بدأته.
لم أستطع أن أكون هي، ولن أكون.
لكنها زرعت في قلبي ما يكفي من الإيمان كي أُحاول أن أكون أهلًا للرسالة.
حرصت أن أحافظ على الجامعة، أن أطورها، أن أفتح لها أبواب العالم من خلال الشراكات الدولية، وأن أفتح بها أبواب الأمل من خلال القوافل الطبية، والدعم المجتمعي، والمنح التعليمية.
كل ذلك وأنا أسمع صوتها في ذهني يقول لي: "افعل ذلك لله.. وللوطن.. ولمن لا صوت لهم".
أمي يا من علمتني أن الكرامة لا تُشترى، وأن العمل هو أنقى أنواع العبادة، وأن الرحمة فوق كل اعتبار.. أعدك بأني سأظل على العهد.
سأظل أراعي كل طالب يرى في الجامعة مستقبله، وسأظل أُدخل الابتسامة إلى وجه كل مريض يأتي إلى مستشفاكِ يطلب الشفاء، وسأظل أُعيد رواية حكايتك، لا لكي أُباهي بك، بل لكي أُعلّم بها.
لقد علمتِني أن الأثر لا يكون بكثرة الكلام، بل بصدق الفعل. وأن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يمنح.
وأن أعظم الهدايا التي يتركها الإنسان بعد رحيله، ليست الأموال ولا العقارات، بل القلوب التي تغيّرت بسببه، والابتسامات التي أنار بها دروب الناس.
وهذا ما فعلتِه يا أمي.. وهذا ما سيبقى من بعدك.
وإنني اليوم، حين أُشاهد صورك في الجامعة، أو أستمع إلى من يذكرك بكلمة طيبة، أو أرى طالبًا ناجحًا يسألني عنك، أشعر بأن وجودك لم ينتهِ.
بل إن كل ما هو جميل في هذه المؤسسة يحمل من روحك، ومن قلبك، ومن سرك الطيب.
رحمكِ الله كما كنتِ أمًّا رحيمة، وكما كنتِ قائدة نبيلة، وكما كنتِ معلمة علّمتني، ليس فقط كيف أعيش، بل كيف أحب، وكيف أُعطي، وكيف أخلُد.
