سعاد كفافي.. سيدة صنعت من التعليم رسالة ومن التحدي بطولة

- عندما يصبح الحلم "خريطة" للمستقبل
- د.سعاد كفافي لم ترضَ بالممكن فصنعت المستحيل
- الإيمان بالعلم يصنع معجزات
- من حروف المناهج إلى نبض الشوارع
- قاهرة المستحيل قرأت الغد قبل أن يأتي
- حكاية جامعة بدأت بقلب أم وانتهت بإرث وطن
هناك شخصيات تُولد لتعيش بيننا، لكنها ترحل لتسكن داخلنا.
هناك أسماء لا تُنسى، ليس لأنها كانت لامعة أو مشهورة، بل لأنها كانت مُضيئة ، وأكتب اليوم عن سيدة لم تطرق باب المجد، بل شيدت أبوابه بنفسها، عن إنسانة لم تكن تطلب التصفيق، بل كانت تزرع أثرًا صامتًا في كل ركن من أركان وطنها.
كنت وما زلت أرى في الدكتورة سعاد كفافي واحدة من هؤلاء الذين لا يمرون مرور الكرام في الحياة، بل يتركون على جدرانها نقوشًا لا تمحوها السنون.
تلك المرأة التي اختارت أن تواجه المستحيل، لا بالصوت العالي أو الشعارات، وإنما بالفعل الصادق والرؤية الثاقبة، حتى استحقت عن جدارة لقب "قاهرة المستحيل".
ما زلت أذكر جيدًا حين وقفتُ ذات يوم أمام صرح شامخ في قلب مدينة السادس من أكتوبر، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، شعرت وكأن المكان ينطق باسمها، وكأن الجدران تحفظ صوت خطواتها، وكأن الأرصفة تتذكر يدها التي زرعت الحلم فيها حجرًا فوق حجر.
لم تكن الجامعة مجرد مبنى تعليمي، بل كانت انعكاسًا حيًّا لروح امرأة آمنت بأن التعليم ليس مهنة، بل رسالة.
امرأة نظرت إلى المستقبل قبل أن يأتي، وقررت أن تسبق الزمن بخطواتها، فأسست معاهد، وشيدت جامعة، ووضعت على رأسها قلبًا نابضًا لا يخشى التحديات.
سعاد كفافي لم تكن أكاديمية تقليدية، ولم تكتفِ بأن تكون أستاذة تحمل درجات علمية، بل كانت حالة متفردة من الشغف العلمي والرؤية المجتمعية.
كانت تقول دائمًا إن التعليم هو الطريق الوحيد لنهوض أي أمة، ولم تكن تردد هذه العبارة كحكمة محفوظة، بل كانت تُمارسها كفعل يومي ، كانت تؤمن بأن كل طفل يستحق أن يحلم، وكل شاب من حقه أن يجد فرصة، وكل عقل يجب أن يجد غذاءه العلمي.
ولهذا حرصت على أن تُقيم صرحًا أكاديميًا لا يُشبه سواه، جامعًا بين الحداثة والهوية، بين الطموح والانتماء، بين العلم والمسؤولية.
لم تكن سعاد كفافي تهتم بالأضواء، ولم تكن تُحب الظهور، لكنها كانت تحب أن ترى ابتسامة على وجه طالب، أو نظرة أمل في عين مريض فقير يأتي إلى مستشفى يحمل اسمها.
نعم، كانت تعلم أن الجامعة التي تبنيها لا تكتمل إلا بمستشفى يخدم الناس، فظهرت إلى النور مستشفى سعاد كفافي الجامعي، ليكون امتدادًا لإنسانيتها قبل أن يكون مجرد مرفق طبي.
لم يكن المستشفى مكانًا للعلاج فقط، بل كان رسالة مجتمعية متكاملة، تُجسد ما كانت تؤمن به من أن الجامعة لا تكتفي بإصدار الشهادات، بل يجب أن تداوي جراح المجتمع، وأن تفتح أبوابها لكل من يحتاج، دون مقابل، ودون منٍّ.
كانت د. سعاد تؤمن بأن العدالة التعليمية لا تقل أهمية عن العدالة الاجتماعية، ولهذا أوصت – قبل أن ترحل – بأن تظل المصروفات الدراسية في متناول أبناء الطبقة الوسطى، وأن تُمنح الفرصة لكل من يستحق، مهما كانت ظروفه.
وقد سمعت من نجلها، الأستاذ خالد الطوخي، أن هذه الوصية كانت وصية العمر، وأنها كررتها أكثر من مرة في أيامها الأخيرة، لأنها لم تكن تنظر للتعليم كتجارة أو استثمار، بل كنافذة نور يجب أن تظل مفتوحة لكل من يسعى للعلم.
ولأن المخلصين لا يموتون، فإن ابنها البار خالد الطوخي لم يخن تلك الوصية، بل حفظها في قلبه وعقله، وسار على نهج والدته بإخلاص لا يقل عن إبداعها.
استكمل ما بدأته، وواصل بناء الحلم، فطوّر الجامعة، ومدّ جسورًا مع جامعات العالم، وفتح آفاقًا جديدة أمام الطلاب، وأطلق قوافل الخير في القرى والمناطق المحرومة، ليؤكد أن هذه المؤسسة التعليمية لم تُبنَ فقط من الأسمنت والحديد، بل من القيم والرحمة والضمير.
حين أتأمل قصة هذه السيدة العظيمة، لا أراها قصة تعليم فقط، بل أراها قصة حياة، قصة امرأة مصرية آمنت بنفسها، وعرفت طريقها، ولم تسمح للمجتمع بأن يحاصرها بتقاليده أو يقيّدها بتصوراته المسبقة.
أراها قصة وطن في سيدة، اختزلت في خطواتها معاني الإصرار، وفي صمتها فلسفة الإنجاز، وفي عطائها أروع ما يمكن أن يُقال عن مصر حين تُحب أبناءها.
لم تكن سعاد كفافي تبحث عن الأوسمة أو التكريمات، بل كانت تسعى لتغيير الواقع.
لم تطرق باب أحد لتطلب دعمًا أو مجاملة، بل فتحت بنفسها أبوابًا لأجيال كاملة من الطلاب والطبيبات والمهندسين والإعلاميين.
كانت تعرف أن بناء الإنسان هو أقوى من بناء المباني، وأن التعليم لا يقتصر على قاعة أو منهج، بل يبدأ من فكرة تنبت في القلب، ثم تكبر على يد من يؤمن بها.
أجمل ما في هذه القصة، أنها لم تنتهِ برحيل بطلتها. بل استمرت، وتشعبت، وتحولت إلى نموذج حيّ.
جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ما زالت تستقبل آلاف الطلاب، والمستشفى الذي يحمل اسمها ما زال يفتح أبوابه للمحتاجين، والرؤية التي حملتها يومًا ما زالت تُثمر في عقول شابة، تحمل الحلم وتبحث عن الطريق.
لذلك، فإن الحديث عن الدكتورة سعاد كفافي ليس مجرد وقوف أمام سيرة ذاتية حافلة، بل هو وقوف أمام ضوء نحتاج أن نتمسك به وسط هذا الزحام، وسط عالم يتغير بسرعة ويكاد ينسى قيمة البساطة والعطاء الصامت.
لقد علمتنا "قاهرة المستحيل" أن المرأة يمكن أن تُغيّر وجه التعليم في وطن، وأن الصمت قد يكون أبلغ من الضجيج، وأن بناء المستقبل لا يحتاج إلا إلى قلب صادق يؤمن بالناس وبالرسالة.
رحلت سعاد كفافي، لكن طيفها لا يغيب.
كلما رأيت شابًا يدخل الجامعة وهو يحمل أحلامه على كتفه، وكلما سمعت قصة أم فقيرة عالجها المستشفى دون مقابل، وكلما التقيت خريجًا يفتخر بأنه خرج من تلك الجامعة المختلفة، أتأكد أن هذه السيدة لم ترحل فعلاً.
لقد تركت وراءها ما يكفي ليظل اسمها حاضرًا، في صمت، في عيون الطلاب، في دعاء المحتاجين، في دفء القلوب التي عرفت قيمتها، وعرفت كم كان حضورها كبيرًا رغم أنها لم تسعَ يومًا إلى الظهور.
بعض الناس يرحلون جسدًا فقط، لكن أرواحهم تبقى لتحرس الحلم الذي صنعوه، وسعاد كفافي واحدة من هؤلاء.
اسمها محفور في جدار الذاكرة، لا لأن أحدهم طلب أن نذكرها، بل؛ لأننا لا نستطيع أن ننساها.
