محمد عبد اللطيف.. الوزير الذي انتصر للتعليم ولم يرفع الراية البيضاء

الشورى

-  "بعبع" الثانوية العامة .. أصبح مجرد ذكرى لن تعود 

- محمد عبد اللطيف.. رجل لا تُخيفه التحديات.. ولا يستدرجه البريق

- بالعقل والإرادة.. وزير التعليم يُعيد للمدرسة "الحكومية" هيبتها

- البكالوريا المصرية.. الحلم الذي كنا ننتظره منذ عقود

- من فصول مكتظة إلى بيئة تعليمية آدمية.. كيف غيّر الوزير المعادلة؟

- "المعلم" شريك لا موظف.. ثورة صامتة في فلسفة القيادة

- حين يتحدث الوزير بلغة الأرقام لا الشعارات.. يُولد الأمل من جديد

كنت وما زلت على قناعة تامة بأن إصلاح التعليم في مصر هو أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا، بل ربما هو التحدي الحقيقي الذي يكشف مدى جدية الدولة في صناعة المستقبل.

ولطالما نظرت إلى هذا الملف باعتباره معركة وجود لا تحتمل التردد ولا تقبل أنصاف الحلول.

ولهذا، حين تولّى الدكتور محمد عبد اللطيف وزارة التربية والتعليم، لم أتوقع منه أكثر مما اعتدنا عليه من وزراء سابقين: وعود كثيرة، وابتسامات رسمية، وعبارات إنشائية تتكرر مع كل تغيير وزاري.

لكن ما وجدته كان مختلفًا تمامًا.

ذهبت إلى لقائه بدافع  التعرف عن قرب على تجربته ،  لم أكن أتوقع أن أخرج من هذا اللقاء بانطباع إنساني قبل أن يكون مهنيًّا ، جلست أمام رجل يتحدث عن التعليم وكأنه يتحدث عن بيته، عن أولاده، عن مصير وطن يحبه ويؤمن به.

لم أسمع منه خطبًا تقليدية ولا وعودًا فضفاضة، بل سمعت خطة. رأيت أمامي مشروعًا، تنطق به الأرقام، وتؤكده الوقائع، وتدعمه الإرادة.

خاض الوزير واحدًا من أعقد الملفات في الدولة المصرية، ملف بدا في لحظة من اللحظات وكأنه وصل إلى طريق مسدود.

التكدس في الفصول، العجز المزمن في أعداد المعلمين، انهيار البنية التحتية في عدد كبير من المدارس، غياب الرؤية الموحدة، وتدهور جودة المناهج… كلها مشكلات يعرفها الجميع، لكنها كانت دائمًا تظل حبيسة التصريحات، بلا أفق واضح للحل.

لكن الوزير عبد اللطيف لم يتعامل مع هذه الأزمات بوصفها موروثًا ثقيلًا فحسب، بل تعامل معها بوصفها اختبارًا حقيقيًّا لقدرة المسؤول على الفعل لا على التبرير.

كانت لديه رؤية، لكنها لم تكن نظرية معلقة في الهواء بل كانت رؤية تتنفس على الأرض، تنطلق من الواقع وتعود إليه.

ومن أبرز ما أنجزه الوزير في هذا العام القصير، أنه خاض معركة مصيرية ضد "بعبع" الثانوية العامة، ذاك الكابوس الذي ظل يؤرق الأسر المصرية لعقود طويلة.

ومن خلال طرحه نظام "البكالوريا المصرية"، فتح آفاقًا جديدة لفلسفة تعليم أكثر إنسانية وعدالة ومرونة، تعليم يُبنى على الفهم لا الحفظ، وعلى التقييم المستمر لا الرهبة من امتحان واحد يقرر مصير الطالب.

لم تكن البكالوريا فكرة عابرة، بل مشروعًا متكاملًا.

وقد بدا لي واضحًا من تفاصيل ما عرضه الوزير، أنه رجل لا يراهن على مجرد الأفكار، بل على التطبيق والقياس والتقويم.

استعرض أمامنا عبر شاشة عرض ضخمة ما تم إنجازه بالفعل خلال عام واحد فقط، من يوليو 2024 إلى يوليو 2025، أرقامًا دقيقة وإحصاءات موثقة، جداول ورسومًا بيانية تعكس حجم الجهد اليومي والإدارة الواعية.

واحدة من أكبر الأزمات التي نجح الوزير في التصدي لها، كانت الكثافة الطلابية غير المسبوقة داخل الفصول.

فبينما كانت بعض الفصول تضم ما يزيد على 200 طالب، نجحت الوزارة – دون الاعتماد على ميزانيات إضافية – في خفض هذه الكثافة إلى ما بين 39 و50 طالبًا فقط، عبر حلول واقعية تعتمد على إعادة التوزيع الأمثل للموارد، وإعادة توظيف المباني، وتوسيع مفهوم الجدول الزمني دون المساس بجودة العملية التعليمية.

لكن المدهش حقًّا لم يكن فقط في الأرقام، بل في الطريقة التي عُرضت بها.

شفافية نادرة لمسؤول حكومي، يتحدث إلى الناس بلغة الأرقام، لا بلغة المبررات.

يتحدث بلغة الإنجاز، لا بلغة التجميل.

بل إن الوزير فاجأ الجميع حين أعلن أن الرقم الحقيقي للعجز في أعداد المعلمين لم يكن 469 ألفًا كما كان يُتداول، بل ارتفع فعليًا إلى 665 ألفًا، بعد ما تم اكتشافه من فجوات غير مرصودة.

ومع ذلك، لم تكن هذه الصدمة ذريعةً للشكوى، بل دافعًا للعمل.

فقد تم التعامل مع هذا العجز عبر حزمة من الإجراءات الذكية التي لم تثقل كاهل الموازنة العامة، بل اعتمدت على حلول إدارية مرنة، وتوظيف للتكنولوجيا، وتطوير لمسارات التعيين والتدريب.

توقفت طويلًا أمام حديث الوزير عن زيارته المفاجئة لعدد من المدارس النائية.

لم يكن يسعى لاستعراض إعلامي ولا لقطات استهلاكية.

بل كان يذهب ليستمع. قال لي: "إذا أردت أن تُصلح التعليم، فعليك أن تبدأ من الفصول، من واقع الطلاب والمعلمين، لا من المكاتب المكيفة.".

حين تسمع هذا الكلام، لا يسعك إلا أن تحترم هذا المسؤول.. ليس لأنه يُجيد الحديث، بل لأنه يختصر الطريق بين الحلم والتنفيذ.

كما لم يتجاهل الوزير ملف التعليم الفني، الذي ظل مهملًا لعقود طويلة، يُعامل دومًا باعتباره البديل "الأقل شأنًا" للتعليم العام.

لكن في ظل قيادته، بدأنا نرى تحركات جادة لإعادة الاعتبار لهذا القطاع، من خلال ربطه بسوق العمل، وتطوير مناهجه، ودمج الذكاء الاصطناعي في محتواه، بل وتحويل بعض المدارس إلى وحدات إنتاجية فعلية تعزز من قيمة الطالب وتُؤهله للمنافسة الحقيقية.

أما المعلم، فكان في قلب الرؤية.

لم يُعامله الوزير كمجرد منفذ لسياسات، بل بوصفه شريكًا في التخطيط والتنفيذ والتقييم.

ولذلك أطلق مشروع "المعلم الشريك"، الذي يتيح للمعلمين إبداء الرأي في المناهج، وتقديم مقترحات التطوير، والمشاركة في تقييم الأداء، وهو ما شكّل نقلة نوعية غير مسبوقة في العلاقة بين الوزارة والمعلمين.

كل ما سبق، لم يكن ليحدث دون أن تكون هناك إرادة سياسية وفكر إداري يؤمن بأن التعليم هو أساس كل نهضة.

وفي تقديري الشخصي، فإن الدكتور محمد عبد اللطيف لم يكن مجرد وزير تعليم، بل كان مشروعًا وطنيًّا يحمل طموح شعب، ويجسد إرادة دولة تسعى بصدق لاستعادة مكانتها من خلال الإنسان.

وفي مرة أخرى التقيته بعد مرور عدة أشهر، وسألته: هل ما زلت تؤمن بأن ما بدأته سيكتمل؟ فأجابني بابتسامة واثقة: "لا شيء يُبنى في يوم وليلة، لكن الخطوة الأولى قد تحدد اتجاه الطريق كله.

وقد أخذنا تلك الخطوة، ولن نتراجع عنها.".

في تلك اللحظة، شعرت بأنني أمام رجل لا تُخيفه التحديات، ولا يستدرجه البريق، ولا يُراوغ بالكلمات.

رجل قرر أن يكون صادقًا مع نفسه، قبل أن يطلب من الناس أن يصدقوه.

رجل يعرف أن التعليم لا يُصلح فقط مستقبل التلاميذ، بل يُصلح حاضر الوطن ومستقبله معًا.

لم أكتب هذه الكلمات مجاملة، ولا لأكسب رضا مسؤول، بل لأقول شهادة حق. فحين أرى رجلًا في موقع السلطة يعمل بهذا الإخلاص، ويواجه التحديات بهذا الصدق، ويخوض معركة الإصلاح بهذا الوعي، لا أملك إلا أن أكتب، وأن أقول:

الدكتور محمد عبد اللطيف هو الوزير الذي انتصر للتعليم، ولم يرفع الراية البيضاء.

 

الصفحة الثانية عشرمن العدد رقم 421 الصادر بتاريخ 24 يوليو 2025

 

تم نسخ الرابط